محمد صابر عبيد
تعكس فكرة ارتياد دور السينما أهدافاً ومقاصد شتى ليس آخرها تزجية الوقت وقضاء أوقات رائعة من متعة المشاهدة البصرية المكتظة بالالتذاذ صوتاً وصورة وفضاء، ولا تعدّ فكرة الارتياد هذه نزوة مجرّدة عابرة ترد إلى الذهن على حين غرّة بلا سابق إنذار أو تقصد أو تصميم.
وذلك لأنّها تقتضي دفع ثمن ماديّ للحصول على تذكرة تسمح بالدخول إلى قاعة العرض أولاً، ثمّ تخصيص وقت تنشغل فيه العين الرائية والذهن المراقِب في متابعة صورة فيلميّة متكاملة تعرضها شاشة بيضاء شاسعة، في أعلى درجات الإنصات والتفاعل والاندماج والاستمتاع، والسعي في خضمّ ذلك إلى محاولة الإفادة من قصّة الفيلم وطرائق عرضه وأساليبه، وغير ذلك مما يمكن إنتاجه من ثقافة ومعرفة يطوّر فيها الناظر أدواته في ممارسة
الحياة.
تقوم العلاقة بين الرائي والشاشة على قوّة الانشداد إلى العرض بحيث يعزل المشاهد كلّ ما له صلة به من انشغالات وهموم وتحديات كي يكون جزءاً لا يتجزّأ من شاشة العرض، وتصبح العلاقة بين الذات الرائية والمكان لانوعيّ الخاصّ شديدة التوحّد والانتماء والصيرورة الوجدانية والفضائية، وعلى الرغم من أنّ الحيّز المكانيّ الخاصّ بدار السينما والظلمة التي ينبغي أن تخيّم على العرض والانشداد إلى المقعد المخصّص قد تُذكّر بالسجن، غير أنّ الشاشة وهي تنفتح على أحداث الفيلم سرعان ما تبدّد هذه الذكرى الطارئة كي تحرّر المشاهد الرائي وتضع في يده صولجان الحرية والانطلاق والفرح، وتذهب به نحو عوالم لا أوّل لها ولا آخر بحيث ينسى نفسه ويندمج في خضمّ هذا الأفق المرئي بلا حواجز ولا مصدّات ولا
إكراهات.
يطغى إحساس جميل على الرائي بتملّك المقعد المخصّص للمشاهد لأنّه دفع ثمناً لقاء ذلك لا ينازعه فيه أحد، وهي كينونة مكانيّة تجعل له حقّ مشروع في هذه المساحة الصغيرة التي يشغلها والمسافة التي تفصله عن الشاشة، ولا تنتهي حالة التملّك هذه إلا بانتهاء العرض فيتمّ تنوير قاعة العرض للتدليل على أنّ حظوظ الرائي في تملّك المقعد والمسافة التي تفصله عن الشاشة قد انتهت، إذ طالما أنّ النور الذي يضيء القاعة مختفٍ فللرائي الحقّ في البقاء والاستمتاع بتملّك المقعد المخصّص له، بكلّ ما يعكسه ذلك من حقوق وواجبات، فالحريّة التي يمتلكها في مقعده لا تتيح له التصرّف إلا على النحو الذي يتناسب وقوانين العرض السينمائيّ، وعلى العموم فإنّ لقطات معيّنة في الفيلم قد تدفع الرائي إلى الاندماج بالحالة وإطلاق تصرّف غير سليم عن طريق صوت أو حركة، لكنّ الآخرين يقبلون ذلك في كثير من الأحيان حين يكون تعبيراً عن دواخلهم وانفعالاتهم وتمثلاتهم، ليندرج في سياق الفضاء الإمتاعي العام الذي يولّده الفيلم وتولّده قاعة العرض السينمائيّ والحالة السينمائيّة التي تهيمن على
الجميع.
يشعر المشاهد بنوع من تملّك المسافة الممتلئة بالانفعال والتفاعل والتمثّل والتمثيل بين الشاشة والعين الرائية، بوصفها مسافة (مدفوعة الثمن) على نحو ينبغي فيه استثمارها واستغلال ما تتيحه من إمكانات ورؤيات ومنافع قريبة
وبعيدة.
فقد يتهيأ له داخل ظلمة المكان وكأنّه الوحيد الجالس في قاعة العرض بحيث يبدو العرض مخصصاً له فقط، وهو يحظى بهذا الإحساس التملّكيّ الجميل كي يكون بوسعه تلقّي الفيلم على النحو المناسب المشحون بالحرية والمتعة، وثمّة من يفضّل داخل قاعة العرض المقاعد القريبة من الشاشة، وآخر يفضل المقاعد البعيدة، ولكلّ أسبابه الشخصيّة المتعلّقة أحياناً بظروف صحيّة تتعلّق بكفاءة العين أو ظروف مزاجيّة تتعلّق بفلسفة المسافة الفاصلة بين العين والشاشة العارضة، مع أنّ الجوّ العام لقاعة العرض تتيح حساسيّة شبه واحدة للقريبين أو البعيدين من الشاشة لكنّ التفضيل بالنسبة لشخاص بعينهم يبقى قائماً وفاعلاً.
ينتهي العرض فتسقط الإقامة المشتراة لوقت محدّد بزمن عرض الفيلم وعلى المشتري أن يغادر المكان ولا يحقّ له البقاء فيه مطلقاً بعد نفاد قيمة المبلغ المدفوع، إذ يتحوّل المكان الأليف السعيد الممتع قبل قليل إلى مكان طارد يتمّ تنظيفه من الرائي المفرد ومن مجموع الآخرين بانتظار سكّان مؤقّتين جدد غيره وغيرهم، ما يلبثون أن يدلفوا إلى القاعة قبل وقت العرض اللاحق بزمن قصير كي تتكرّر اللعبة بين الرائي والشاشة، وهكذا بلا توقّف على مدى عرضَين أو أكثر كلّ
يوم.
حين ينطفئ نور القاعة في بداية العرض إنّما يسهم ذلك في توفير فرصة صمت كافية لإجراءات العرض بما يفرضه من صمت وانتظار جميلين مشحونين بأعلى صور التوقّع، وفي ظلّ جوّ الظلمة الذي يسود قاعة العرض يغيب كلّ ما فيها بحيث يتحوّل الوجود البشريّ المالئ للقاعة إلى عيون تحدّق في بؤرة مركزية واحدة جامعة هي الشاشة، فهي مصدر النور الوحيد طوال مدة العرض والظلام هنا مصدر سعادة لا مصدر خوف وترويع، فهو الظلام السعيد الذي يرافقه انفتاح نور الشاشة على ضوء الصور واللقطات والمشاهد والحكايات والأبطال والصراعات التي لا تتوقّف إلا بانتهاء الفيلم، حيث يشتعل النور الخارجيّ من جديد وتنتهي متعة
الظلام.
تحوز حساسيّة التماهي مع البطل على النسبة الأكبر من تفاعل الرائي مع القصّة التي يعرضها الفيلم، بحيث ينسى نفسَه الجالسةَ على مقعد المشاهدة ويدخل إلى أعماق الشاشة كي يصبح شكلاً ما من أشكال بطل الفيلم، وكلّما كان البطل خارقاً وقادراً على تحدّي أصعب المآزق التي تصادفه اندفع الرائي أكثر نحو تبنّي هذه البطولة والانسياق وراء فتوحاتها، فيفرح لانتصارات البطل ويحزن لانكساراته ويتطابق معه مهما بلغت شخصيته من عنف ورغبة في التدمير والقتل، يصبح من دون وعي تابعاً للبطل ومدافعاً ضمنياً عنه ومنتشياً بمنجزاته الأسطورية والخرافية التي يبتكرها مهما كانت بعيدة عن المنطق، فيبدو أنّ العلاقة مع الشاشة تُلغي فعالية المنطق ويرتفع المشاهد درجة أعلى في سلّم التلقّي المتخيّل تاركاً مسافة ما بينه وبين الأرض التي تسند قدميه، تحت ضغط شعور عارم بالاندماج مع الحالة الفيلمية بلا حدود وبلا أي انتماء للخارج الأرضيّ، لكنّه سرعان ما ينتهي إلى خيبة مشحونة بالمرارة تطغى على مشاعره
وهو يغادر قاعة العرض بخفّي
حنين.