المذكرات بين هيلاري وبرزان

ثقافة 2020/06/25
...

علي شايع
 
في لجّة بوح هائل يجتاح أفق وسائل التواصل وعوالم الكتابة التي ضيقت سعتها مديات الوصول الى الإبداع الحق، ضمن معادلة عكسية يعرفها أهل الحرفة وصناعها المهرة، ويخبرها محترفو القراءة والكشف. 
وفي تزاحم ما ينتج على المستوى الفكري، أو ما يدَّعى أنه بهذا الاتجاه، ثمة ما ينشر ويباع منه الكثير، وهو ليس بذي نفع أو جدوى، بل ثمة كتاب ستبقى نادماً على انتقائه، مترددّا بأي ركن من أركان المكتبة تدسّه، وكأنك تواريه عن الناظرين، من سوء ما بَشّرت به تلك الصفحات، فتحار فيه كلما صادفته "حيرة المدهوم" كما يقول ابن الرومي.
في واحدة من المصادفات اجتمع في جدول قراءتي كتب سياسية، أو سيرة لساسة معروفة أسماؤهم ومذكور تاريخهم، فقبل أيام وضعت على جدول المطالعات كتابين في السيرة، واحد لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلنتون، وآخر لبرزان التكريتي!، وأضع اسمه هنا بلا صفة فهو غني عن التعريف، لما تركه من تاريخ ضاج بالرعب والدم، وبالتأكيد سيكون لسيرته المكتوبة نصيبها من هذا التاريخ الإجرامي، فكل نفس بما كسبت رهينة، وكل فاعل مأخوذ بفعله لا محالة، ومدون السيرة ينهل من 
إرثه. 
قلت لأطالع ما بين يدي من صفحات ثقيلة، بتجرّد من يريد التمتع بفروسية محارب سابق!، وهو ينزع أسلحته ليضعها جانباً متفرغاً لتوثيق سيرته، اذ ثمة من يكتب مذكراته شهادة ضميرية للحق والتاريخ.. يكتبها كما لو أنه بين يدي قاض عادل يريد منه الإنصاف وهو يعلم أن كل الأدلة بين يديه، وهو محيط لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها بدليل بيّن، لذا تجد انه يكتب باسترخاء وطواعية، حتى وإن كان يتحدث عن أعقد الصعاب. 
 
إشارة استباقية
كاتب المذكرات يرسم هدفاً ويحدد مساراً أولياً لما سيفيض عن خاطره، وما يقوله بتجرّد صرف، تاركاً للقارئ أن يضع رأيه عن تلك الوقائع. اصطدمت بمطالعة مذكرات برزان التكريتي التي حملت عنواناً ملفتاً، في الكتاب الذي بين يدي، وطبعة مختلفة في دار نشر أخرى، العنوان الأول (السنوات الحلوة والسنين المرة)، والآخر (الأعوام الحلوة والسنوات المرة).  
العنوانان يدلان على وجود يد أخرى غير يد الكاتب، وذهن يميّز بين السنة والعام في اللغة العربية، إذ قيل إن العام يدل على الرخاء واللين، والسنة تدل على الشدة والصعوبة، وكذا في لفظ (سنين) الوارد في القرآن الكريم.
ومن وضع العنوان بهذه الدقة كان يريد الاشارة الاستباقية الى البيان البلاغي للكاتب، فيغدو الكتاب بيّناً من عنوانه، وهو أمر سينكره من عرف برزان التكريتي أو سمع له حديثاً. ولم أكن لأنتظر منه حكمة أو بلاغة، لكني توقعت أن يكون لهذا الرجل ما يقوله من أسرار ستملأ مجلدات لو أراد سردها وكتابتها للتاريخ، وبالتأكيد القضية ليست قضية تاريخ شخصي عشائري قبلي مناطقي منمق كما يدور في فلك كتاب رجل المخابرات الذي يقرّ بارتكابه الجرائم وقتل الأبرياء.
على مدار 400 صفحة لم يضف برزان التكريتي في سرده الجديد ليكشفه للقارئ، ولم ينفع التجرد أمام التوقع الأولي عن كتاب تبيّن أنه لا يحوي اضافة ثقافية أو معلومة جديدة نافعة، فهذا الرجل الذي شغل مناصب مهمة في الدولة، ينتظر من كتابته ضجة أسرار وتفاصيل لا يعرفها إلا هو، وبالطبع ليس له من حجّة وقد مضى الزمن، وأقرّ في مدونته بوجود أخطاء وكوارث عصفت بالبلد كان سببها أسرة مشؤومة النفوذ، لن يشفع لكتابة سيرة أي فرد منها كلّ بلاغة الكون، فالسرير في بلاغة العرب عرش للملك، ونعش للميت كما يقال. 
كان الأجدر بالكاتب وهو رهين محبسه، أن يترك أثراً في الاعتراف إن كان استوعب الدرس، وأبعد مما قاله (مونتيسكو) عن معرفة شخص ما بـ "وضع السلطة بيده ثم النظر الى تصرفه"، أجد أن ما بعد تلك السلطة من أخطاء يمكن أن تكون لها فرصة لإصلاح الشخص ذاته، عبر الاقرار بتاريخ من الاعتباط الدموي، وتدوين تفاصيله، وتبيانها والتناصح بها، لتصحيح الأخطاء بالاعتراف على الأقل، لا سيما وهو متأكد من حتمية مصيره، لكنه ران على قلبه، أن لا يكون له حظ من الحقيقة. 
كتاب هيلاري كلنتون (خيارات صعبة) واجهت صفحاته بذات التجرّد مع فارق ريبة استباقية، مفادها أن السيدة الكاتبة أنجزت كتابها ليس بقصدية البوح الغفراني لشخص مقبل على الدينونة، أو نقد الذات ومحيطها السياسي، إذ لا سياسة من دون أخطاء تستحق الترشيد والإشارة الى مكامن الخطأ فيها، لكن السيدة الوزيرة السابقة، والطامحة لرئاسة أقوى بلد في العالم دبجت صفحات كتابها بقصد سياسي بعيد المنال إذ ما زال طموح الوصول يستنهض
كل جهد لديها. 
 
وقائع وأحداث
الفارق إذن بين قراءة كتاب سيرة لراحل عن الحياة، وآخر مرتهن لوقائعها وتقلباته، يضعك كقارئ في موضع الحذر، ومع كل تعمق بما يطرح ستجد أن المريب يكاد أن يقول 
خذوني. 
الكتابان لدبلوماسيين! عاشا تفاصيل ظروف سياسية دولية في زمن واحد، وشهدا عشرات الوقائع والأحداث، وفي لحظة الكتابة سنجد الفارق في التدوين، فوزيرة الخارجية الأميركية دبلوماسية معروفة، تذكر أعداءها بطيب خصالهم، وتترك صفحات وصفحات طويلة في نهاية الكتاب لتستعرض جهد من وقف معها وأسهم في وقوفها واستمرارها في عملها، وهي بهذا جعلت من كتابها مثار إعجاب البعض ومحط استفزاز آخرين، او جعلتهم يشكلون موقفاً منها، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال للصحافة إنه سمع عن كتاب السيدة كلينتون لكنه لن يطالع الكتاب أبداً.
صحف ومواقع كثيرة نقلت صفحات من الكتاب قيل إنها مزورة وتتداول في مواقع التواصل، وآخرون ادعوا ان السيدة كلينتون ومن معها يسهمون بصورة أو أخرى بما يجري من الترويج للكتاب بشتى الطرق. وفي المعيار نفسه سنجد من ادعى بطلان صحة مذكرات برزان التكريتي، بل إن أفراداً من أسرته قالوا إن مغرضين وضعوا الكتاب للإيقاع بين أركان أسرة الطاغية المدان. تساءلت: لو أن السيدة كلينتون كانت قابلت برزان التكريتي يوما ما وقيض لهما أن يدونا حكاية ذلك اللقاء فكيف سنطالع ما كتبا؟. 
ربما سيكون لكتابة كل منهما ما يدلّ على سيرة الراوي، وحين يوضع في ميدان فحص الأدب المقارن على سبيل المثال لكشف ما أراده الكاتب من شكل تعبيري، يمكننا وقتها تحليل ما تلا ذاك اللقاء من وقائع وأحداث وما واجهنا من مشاكل كبرى. ولست مطلعاً على النظريات السياسية، لكن للقارئ أن يتصور أن مبحثاً من هذا القبيل يستحق الدراسة والاستفاضة لبيان حالنا، على الأقل حين وجدنا من يكتب ويدون سيرته من ساستنا!، ويا لها من كلمة فضفاضة كبيرة. كتابة السيرة للسياسي وسواه، تتطلب أن يقرن الصدق بالعمل، ولو بأقسى صورة، فلحظة تعجز القلوب عن احتواء الصدق ستعجز الألسن عن قول الحق، كما قال العقاد.  ولأن كتابة السيرة مواجهة أولى مع النفس لاستنفار صدقها في طريق الحق، قبل تحبير الصفحات، لذا فعلى من يشرع في كتابة سيرته ان يكون خصيم نفسه، محتشداً ضدها، وبأدق ما يصف البحتري:
أخيَّ متى خاصمت نفسك فاحتشد.. لها ومتى حدّثت نفسكَ فاصدُقِ