د.علي المرهج
ارتبط مفهوم التجديد في فكرنا العربي والإسلامي الحديث والمعاصر بحركات الإصلاح الديني، ولذلك فلا يُمكن لنا فك العلاقة بين هذين المفهومين "التجديد" و "الإصلاح"، الذي ارتبط بمجموعة من المفكرين على رأسهم الطهطاوي والأفغاني وعبده والكواكبي والتونسي ومالك بن نبي، وشبلي النعماني في كتابه "علم الكلام الجديد" ومحمد إقبال في كتابه "تجديد الفكر الديني"
وعلى الرغم من الدور الكبير لهذه القامات الفكرية في وعي جدلية التخلف والتقدم أو النهضة، وسعيهم الحميم لإيقاظ العقل العربي والمسلم من "سباته الدوغمائي" بعبارة أركون، إلَا أن هذه الرؤى بقيت في طور الدعوات لما ينبغي أن يكون، أي أنها بقيت تدور في فلك التصحيح أو الإصلاح القيمي والمعياري لأخلاق المسلمين، وإن كان في بعض توجه نحو العلم الغربي والنهل منه بما يتناسب والجانب القيمي الإسلامي، إلا أنها دعوات بقيت تسير وفق منطلق القدرة على انتقاء الأفضل مما يتناسب وعادات المسلمين وترك السيء مما لا يتناسب وعادات المسلمين، وكأن العادات هي مبادئ مُطلقة لا قدرة لنا على زحزحة طابعها القيمي، وربما لا يخرج من هذا التشخيص سوى الكواكبي الذي حاول التعامل مع مشكل الإصلاح عبر الكشف عن أسبابه الداخلية الكامنة في طبيعة الحياة الدينية والسياسية التي درجنا عليها، ألا وهي "البنية البطريركية" أو "الأبوية" التي درجنا على التآلف معها والعيش في ظلها، فتشكلت منها بنية النظام عندنا الذي كان الاستبداد الشكل الحقيقي المُعبر عنه في نظام الحكم، والذي ترتبت في ضوئه مفاصل وعينا في التطابق ورفض التنوع والاختلاف. فقد كشف الكواكبي عن تمظهرات الاستبداد في التربية والدين والاقتصاد والحياة السياسية، فيما نجد الطهطاوي أكثر تقبلاً لفكرة "أن الملك مصون غير مسؤول وحسابه على ربه" كما يقول، واصفاً محمد علي باشا بـ "ولي النعم". أما الأفغاني الذي نافح في رفض الاستبداد والدفاع عن نمط الحكم الدستوري، فجل همه كان مُنصباً على وصف هذا الحال، ولم ينشغل في تحليل بنية الاستبداد كما هو الحال مع الكواكبي، فقد كان الأفغاني مشغولاً بالاستعمار ودوره في سلب مُقدرات الشعوب، فكان صوته مُدوياً ومؤثراً، لكن رمي الكرة في ملعب الآخر، كما يُقال ليس هو الحل، وأن نجعل من الآخر "المُستعمر" شماعة لنُعلق عليها كل أسباب تراخينا وسباتنا، كما فعل الأفغاني، الذي نقد الاستبداد بوصفه صنيعة الاستعمار فقط، وتناسى أن تاريخنا السياسي والمجتمعي، هو تاريخ استبداد اجتماعي وسياسي، إلَا من بعض إضاءات بسيطة.
كان محمد عبده تلميذ الأفغاني، ولكنه تخلى عن نزعته الثورية بعد دخول الإنكليز لمصر وتخليه عن ثورة عرابي بعد أن كان هو عرابها وداعيتها، وبعد نفيه لبيروت آثر إعادة النظر مع الإنكليز ففتح قنوات للتواصل معهم، في مقابل تخليه عن التحريض ضدهم، فكان ما كان، وبوساطة من الأميرة نازلي مع الإنكليز استطاع عبده أن يكون "مُفتي الديار المصرية" وهو أعلى منصب ديني في الأزهر. فطرح فكرة "المُستبد العادل" الذي يحكم لمدة من الزمن "خمسة عشر عاماً" ليُمهد لتعليم المجتمع معنى الانتخاب وتعليمه معنى الحياة الدستورية. واقتصر التجديد عنده على تحديث مناهج الأزهر وفتح الدراسات نحو العلوم الطبيعية والرياضية بعد أن كانت العلوم فيه مُقتصرة على العلوم الفقهية والشرعية، وهو أمر ليس بالهين في
وقته. أما التجديد الذي أحدثه التونسي، فقد كان مرتبطاً بتأثره بفلسفة إبن خلدون، وبردة الفعل التي أحدثها النظام التقليدي الإداري الفاشل في الدولة العثمانية. ركز التونسي في مشروعه الإصلاحي على ضرورة التنظيمات الإدارية وعمران البلاد عبر الإطلاع على علوم الغرب في هذين المجالين، لا سيما علوم الفلسفة والعلوم الطبيعية والمدنية، لكن بعد التمكن من العلوم الشرعية، لأن في الفلسفة ما يُعتقد ظاهراً أنه يتناقض مع الشرع؛ لذلك ينبغي توخي الحذر من المسلمين حين دراستها، لأننا يُمكن أن نقع في المحظور الشرعي والفقهي (!!).
ربما يكون مُفكر الجزائر الأبرز مالك بن نبي قد تأثر ببعض آراء محمد بن عبدالوهاب في نقده للوثنية وتأثر كذلك بآراء المصلحين وفي رؤيتهم الإصلاحية للتجديد، إلَا أنه خضع بفكره لمنطق المُقايسة، والتأثر بالفكر الغربي وتحولاته الثقافية والعلمية ونزوعه نحو المدنية، فهو قد خبر فكر ديكارت وفكر هيجل وكثيرا من رؤى فلاسفة وعلماء الغرب، وقد طرح لنا ثلاثيته المعروفة، الحضارة = الإنسان + الوقت + التراب، مُستفيداً من تشخيصه لهذه العوامل في الغرب بعدها مُنطلقات الوعي المُتقدم في منظومته الفكرية، وبذكاء حاذق استطاع أن يجعل من هذه العوامل أصلاً من أصول نهضة الإسلام الأولى القائمة على نقد الوثنية، وثنية التعصب للفكرة وللشخص، وتأكيده على أن المسلمين لم يعوا القيمة التي أعطاها الله للإنسان بوصفه خليفته في هذه الأرض، ولم يُعطوا الزمن حقه واستثماره بالشكل الأمثل الذي نجعل منه زمنا حيويا ديناميكيا لا زمنا ساكنا راكدا لاستثمار "التراب" ولأن المسلم اليوم لم يعِ قيمته التي أعطاها الإسلام له، ولكونه لم يعط الزمن حقه في الفعل، فستكون الأرض وترابها بوراً لا نتاج فيها، فتتحول الأرض الخصبة إلى أرض جرداء قاحلة.
لم يبتعد بن نبي عن الدوران في ثنائية الغرب "المسيحي" و الشرق "الإسلامي" سواء من خلال ربط وعي اليقظة ومشكل التخلف بالاستعمار، أو من خلال تبنيه لفكرة: "أن الروح المسيحية ومبدأها الخُلقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاريخية"، ومن ثم فإن نهضة المسلمين تكمن في عودتهم للروح الديني الإسلامي وأبعاده الخُلقية ودفع النفس الإنسانية إلى حظيرة الإيمان من جديد، والعودة لـ "الطريق القويم" أي الإسلام الذي نمى عُرى التماسك والتعاضد برأي بن نبي بين صفوف المُسلمين من قبل بعد أن كانوا أنصاراً ومُهاجرين وبدواً، وهذه القوة هي الكفيلة حين التمسك بها اليوم لعودة المسلمين لما كانوا عليه من قبل.