ترحال

ثقافة 2020/06/27
...

علي لفتة سعيد
 
حمل امتعته وغادر المدينة، تدله عصاه على الطريق يبغي الوصول إلى مدينة أشرقت عليها الشمس ولم تغب، فمدينة لف جسدها الحزن المتغلغل في البيوت، وصارت طرقها خاوية، تهمس جدرانها مرتعشة. في قلبه، نصل سكين، لحظة أنغرز عميقا، أصابه الوجع. واسودت الدنيا في عينية. فقرر الرحيل إلى مدينة تلتقي عندها جهات النجوم وتبرق في ثناياها الأضواء، تخفق القلوب كلما ذكروها، بل صارت محط رحالهم كلما اشتد الأنين وزاد صراخه، كان يتحرك ببطء، ليحافظ على 
ما يخفيه تحت عباءته، يلتفت يميناً ويساراً يقف ليراقب الوجود.
لا تسعفه عيناه على التحديق جيداً. لكنه بغريزة الرجال يعرف أنَّ لا أحد يراقبه. إذن لا أحد يعرف ماذا بيده المضمونة تحت العبادة، لم تكن المخطوطات رغم سريتها،غير مدونات ذكرها الراسخون في الحفظ والتدوين التنبؤ بعد أنْ تناقلتها الشفاه الواثقة من الآذان، لتختزن في العقول. وعندما طمرت الأسماع بعجين الخوف، وطنين قرقعة المعادن وبقاء مغناطيسية الصوت الرهيب تعبث في التراب، راحوا يتناقلون همساً أسرارهم. حتى انبرى من أمسك بالقلم ليدون ما نثرته الألسن، جلس ذات منتصف الليل، وبدأ بترتيب المدونات على ورق أصفر مبلول بماء العشب البري. وقد نُشفت قبل التدوين عليها تحت ضوء القمر لدورات سبع متكاملة، ليبدأ بالتدوين بعد انتصاف النوم، يبلل أطراف أصابعه ويودع بعد اكتمال القمر دورته السابعة إلى من وجده مستودع أسراره، قبل الرحيل الأبدي إلى المدينة ذاتها.
كان يصارع في كيفيَّة إيداع المخطوطات التي وصلت إليه من أبيه. من جده الأول، حتى جده السابع. وتحولت عظام الجميع إلى رميم، وهم يوصون من يرث المخطوطات. العبارات ذاتها. إنَّ هذه المدينة انشأها رجل يملك من الشجاعة ما يفوق أجيالاً. ومن الحكمة ما يعادل كل من سطع اسمه في زمنه وبعده. ومن العدل كل من جلس ليساوي بين الناس. استقر به الترحال عبر الصحراء. في ربوعها العطشى. حولها إلى واحة. انبثق الماء تحت قدميه. فتناثر بين جنباتها طالب العلم إلى جانب طالب التوبة. لم يكن يحمل غير اسمه الذي تناوشته الطير فتصلي له. فتبدو أساريره للناظرين إليه. حاسدين أو عاشقين. كأنه يقرأ ما يجول في الخواطر من إرهاصات زرق ومخاوف حمر. سار بين الناس الخائفين عليه وكان خائفاً عليهم. فيقول لهم: اسألوني قبل غيابي. لأني أعرف ما لا تعرفونه. فكانوا يقولون له. انك من تقود وما علينا إلا أنْ نقاد.
قلب الرجل المخطوطات السرية في مساء استعداده للمغادرة فأعجبه ما فعله الأجداد، من أنهم الحافظون على الأسرار، وراح يقرأ لآخر مرة على ضوء الفانوس، محني الظهر، وعندما وصل إلى مخطوطة صفراء، نزلت دمعتان،. إنَّ من سار على هداي سيظل في دنياه ويربح مثواه، ومن سار على درب الفضيلة تخطى عتبة الرذيلة، ومن دفن في ربوع مدينتي محباً متقرباً إلى ما تقربت إليه لن تنهشه ظلمة القبور.
أطلق الرجل حسرة وتابع خطاه.
بعد قرون، كبرت المدينة، وصار الناس لا يقرؤون، بل ولا يسمعون وانهم لا يعرفون من أمر الكلمات شيئاً، حتى ظن المحبون أنَّ لا مخرج آخر يقود إلى النور الساطع، فتدثروا بظلال الصمت وصارت الظلمة ميزان الرؤية، والرجل يئن من خوفه، يسال نفسه متى يستطيع أنْ يعلن للناس أنَّ له من المخطوطات ما تجعل كل من يقرأ يرتد على أعقابه؟ لكن حفيداً برز وقاد خطاه نحو التصحيح، فتهامس الناس من هذا الرجل؟ نقبوا شجرته، سألوا كبار المجالس، سمعوا حروفه مثل موسيقى تطرب إيقاع الروح، وعندما اطمأنت قلوبهم تركوا خطاهم له، ووجهوا آذانهم لكلماته الحكيمة الموروثة، خرجت بعض الأقاويل المتفرقة لتسكن الرؤوس بلا مصدات، حاولوا صهر الكلمات في بواتق من ذهب وفضة، ليخبئوها في عقولهم حتى لا تهرب من جديد، مترقبين لحظة ينشق فيها إيوان الخمول، ليضربوا في لحظة موقوتة الميعاد، خوفهم، تاركين أكفهم تمسك بمقبض سيفه، أو تلوح له كأن القرون تلاقت، فعادت النذور تروي بدمائها الجدران والشوارع، ويرش رذاذ الماء على المارين في احتفالات مهيبة، بعد تحقيق المآرب. وعندما اشتد الحديث وصارت الرقاب تمد لاحتضان رؤيته، نغزتهم المعرفة، وعرفوا أنَّ للكلمات ضرائب، وأنَّ السير خلفه محفوف بالمخاطر، فانغرز نصل الترقب كوخزة أليمة، حسبوها إنذارا للعودة إلى الصمت، لكن الحفيد أعلن وضوح الرؤية وغاية الأهداف. وطبع أقوال جده على ورق ناصع، وزاد عليها إضاءة المعرفة، لتخرج من كف إلى كف، لتجد مكانها الزجاجي على الجدران، موقعين عليها تاريخ رحالهم لشرب السلسبيل، نافضين الغبار عن جهلهم، ليجدوا عنادهم يرقص في دواخلهم، عندها، ارتاحوا، وصفقوا، وقبلوا يد الحفيد، هاتفين باسمه بعد أنْ وفر لهم الماء بعد عطش، ناظرين إلى بياض وجهه وطلعته البهية. مصغين إلى كلماته الداخلة بلا استئذان لفراغات العقول، ليصادر لبهم القلق، العائد بهم للتمسك بأقوال الجد العظيمة، ورأوا الطيور أيضا تأخذ مكانها بين حدقاته، عندما يعتلي منصة الكلام، فيبايعونه مغمضي العيون كأنَّ قلوبهم لا تقبل أي تأويل آخر.
كان الرجل يستمع للعائدين بنشوة متوقدة، يسألهم: كيف وجدتموه؟ ليفتح فاهه المعرض لاستقبال التوضيح وحمد الله أن ليس له أسنان تصد الكلمات، قالوا له: رائحة المسك تحف به كما هي رائحة التاريخ والحكمة، عندما يحرك أصابعه مع صوته الهادر في الفضاء، تهتز له القلوب وترتعش الحناجر، كما لو أنَّ الجد هو الذي بينهم، طلعته بهية، عندما يرونه قادماً، تخرج أصواتهم بإيقاع واحد، كأنهم ولجوا الرياض بلا منغصات، ليعيد عليهم كلمات الجد التي لم يستطع أحد من قطاع الطرق ونهازي الفرص وجوابي الإفك من تشويه معانيها، فيكون ذاك النهار الذي رأوه فيه على غير عادته، كأن الجد يرسل رياحه في وقت يخالف الطقس، عندما ينتهي الحفيد ويسحب انفاسه،عاد المناخ ممطرا أو ساخناً.
قال لهم: ما ذا يقول لكم؟، ينتظرون لحظة ليعتدل في جلسته فهم يعرفونه لا ينام حتى يسمع منهم كلما رأوه. قالوا له: إنَّ كلماته يجوس بها على مسمع الرؤوس المصغية، والتابعين يزدادون كل يوم، حتى خافوا عليه، لأنَّ لحظة الانتهاء، قبل اكتمال الأوان أرادوها قريبة، قال لهم: إنَّ الدرب يوصل إلى حيث تريدون، وانَّ الشجر الوارف سيزداد خضرة وستعشش الطيور بين ظهرانيكم. وسيغيب عنكم الخوف قدماً بعد قدم، وستزول الرهبة عندما يقررون، لو إنكم ابتعدتم عن الرذيلة وسرتم في درب الفضيلة. فأنا واحد منكم، لا أملك كل المفاتيح، ولكن عليكم بزاد التقوى، مسكناً لحانا وسيطرنا بالكاد على انفعالات البكاء.
في لحظة اقتراب النجمة الساطعة من القمر في انتصاف شهره، دغدغه الفرح ولم ينم ليلته تلك، قضاها راكعا ساجدا قارئا لادعيته. في اليوم التالي سمع بخروج الحفيد، انزوى في غرفته يقلب المخطوطات المخفية في الجدار، أماط الغبار عنها بنفخة قوية، وعرى كلماتها البلاغية، وصاح بأحفاده: إنَّ يوم السطوع قد بان وان إشارات النهوض ومضت ولزوجة الهدنة التي صارت كتقية لا بد منها قد ماعت وقال لهم بين التقاط لهاثين. إنَّ الحفيد هذا هو هدفكم في الانتباه إلى درب لم تطأوه لأنكم كنتم سادرين في التيه، انتبهوا إلى كلماته لأنَّ فيها من الانطلاق ما يجعلكم قريبين من التوبة، انتبهوا إلى طريقكم الجديدة واسلكوها، ستكونون آمنين ولكن.عبأ كمية من الهواء ليذيب مرضه ويريح حنجرته المتعبة، عدل من يشماغه وواصل الحديث:
دوروا بين البيوت لتنبهوا الآخرين إليه، فهو الحفيد النابع من تلك الشجرة المقدسة بل هو من نفس ذلك الغصن الذي علقت عليه أسماؤهم وكانوا أقماراً. تهامس الأحفاد غير مصدقين لأنهم لم يستوعبوا ما خفي من المعاني، وما يقصده جدهم، نظر الجد إليهم، عرف استغرابهم، اخرج لهم المخطوطات ففتحوا أشداقهم متعجبين، لم يروها من قبل، لم يعرفوا أنَّ جدهم يحتفظ بأي شيء، نفخ الجد في وجوههم وقال:
لم أخبركم، لأنَّ لا أحد أتثق به كما كان يثق آباؤنا من قبل.
وراح يقص عليهم الرؤيا. وها هي الضرورة قد حانت.
سأله كبير أحفاده:
- وهل سيستمر الحفيد بجمع أشلائنا؟
حك الجد ذقنه واختفت نظراته في لسماء.
قبل أنْ يغادر، سبقته ليلة أرعبته، كانت أشجار حديقته قد ذبلت أوراقها ولم يحن وقت الخريف بعد، وتقوست أغصانها، لحظتها راح يرشق السماء الصافية بنظرات مستطلعة، لم ير فيها نجوماً وقد غاب القمر، كأنَّ المتاهة عادت لتجوس في الطرقات والعقول من جديد، وانَّ ما كان لا بدَّ ألا يكون،عرف إنَّ رؤيا الأجداد التي تترك غصة في نهايتها كلما وصلوا إلى الختام، فانغرزت بين ضلوعه كرة من شيخوخة أعادته إلى فراشه كئيباً، غطى رأسه بذراعيه وحوقل وبسمل وأرخى جسده، عند انتصاف ما بعد انتصاف الليل سمع صوت طلقات، تناثر من هدير رعديد، حسبها تشبه لحظة طعن الجد عندما انتهى من بناء مدينته وكان قد وضع جبينه على الأرض ليسلم رأسه إلى شق سيف غادر، جلس مذعوراً لا يعرف طريق الخروج وروحه تتراوح في بدن أهلكته السنون ومخاوف من انه لن يجد يدا يورثها رؤى الأجداد وثروة الكلمات.. في آخر ركعة له قلب لآخر مرة المخطوطات، حينها قرر أنْ يبدأ رحلته حاملاً مخطوطاته ليجلس جلسته الأخيرة قرب مثوى الجد وقد أخذه التفكير طويلاً لأي حفيد سيعطي المخطوطات ليحفظها من الضياع؟ فربما لم يحن بعد وقت اطلاع الناس على المدونات وهم مشغولون بالتقاط الأنفاس.