شاعر النقد العربي

ثقافة 2020/06/28
...

أ. د. يوسف وغليسي
 
محمّدٌ .. صابرٌ .. عبيدُ
متفعلن فاعلن فعولن
أليس من المصادفات الشاعرية البهية أن يجيء اسمُه موقّعا تماما على وزن شطر من (مخلّع البسيط)؟!
وأن يتقاطع اسمُه مع اسم جدّه الشاعر الأوّل (عبيد بن الأبرص) صاحبِ أقدم أنموذج من هذا (المخلّع)!..
هو الهارب دوما من العَروض في شعره ونقده معا؛ فقد كان يتعمّدُ كسْر ظَهر الوزن في شعره، ليُعلي المقام الروحي للشاعر في نقده!
هل كُتب على ناقدنا، الشاعر في أصله، أن يظلّ شاعرا حتى في فعله النقدي؟!
محمّد صابر عبيد طائر عراقيٌّ محلِّق في سماء النقد العربي بشاعرية فاتنة، يتطاير ريشها القزحي في كتاباته المتنوّعة الطافحة شعرا وسحرا (شعرية طائر الضوء، شعرية الكتب والأمكنة، شعرية الحجب في خطاب الجسد، شعرية القصيدة العربية الحديثة، الشعر العراقي الحديث،...)، فضلا عن أَريج أخّاذ ينبعث من وحدات المعجم الشاعري المتناثر في فضاء العتبات العنوانية الأولى لكتاباته النقدية (أنوثة الشعر، بعثرة المعنى، انكسار النسق، إيقاع الجسد، الرؤيا، المغامرة، الجمال، الصوت، السّر، السيرة، الطيف،...) ...
هو جلجامش النقد العراقي، وقد استعاد عشبتَه الحياتية الضائعة، فعاد أكثر عزيمة وقوّة ونشاطا، في حيوية نادرة النظير، كان من آلائها ما يتجاوز الأربعين كتابا، تغوص في أعماق الذات المبدعة وشعرية الإبداع، فلا عجب أن يُفْرد عددا غير قليل منها لدراسة تجارب محدّدة قائمة بذواتها (أدونيس، المناصرة، العلاق، القيسي، إبراهيم نصر الله، رعد فاضل،..)..
هو ناقد يَقْطر شاعرية، وما دام كذلك، فهو منحاز إلى الذات الشاعرة في عمقها السحيق، ولاوعيها الممتد،، ولوعٌ بالتقاط هواجس الذات وقد تشكّلتْ معادلا لغويا لها؛ من هنا كانت السيرة الذاتية جلّ همّه!
يأبى الناقد / طائرُ الضوء المحلّقُ في الأقاصي الشاعرية الحرّة أن يسجُن نفسه في القوالب النظرية والأقفاص المنهجية الضيّقة التي تحدُّ ممّا فُطر عليه من الترحال في الأفضية الرؤيوية الفسيحة، لذلك ترى محمد صابر عبيد يواجه السياج المنهجي بروح شاعرية، تتشكّل عوالـمُها داخل النصّ المنقود، وتتمدّد لغتُها الناقدة الحميمة تمدّدا سحريا يُتيح لها عبورَ السياج عبورا مرنا مستساغا، مستعينا على ذلك بما أوتي من استعداد شاعريّ وفضول جماليّ وبلاغة قرائية وروح تأويلية...
فهو يعترف بأنّه مَدين لذوقه الذاتي أكثر من استجابته لمنطق النظرية النقدية وإكراهات المنهج؛ إذ ينطلق في نقد النصّ من محبّة النص المنقود، والتحرّر من صرامة النسق المنهجي، والتسلّح بحساسية الذات الناقدة...
لذلك تتّصف كتاباته النقدية بالدينامية والتحرّر والمرونة والشاعرية...
ولذلك، أيضا، كانت كتبه – في عمومها - ممارسات تطبيقية متحوّلة، لا تنظيرات جانحة إلى الثبات والجمود، بمقتضى منطق النظرية؛ ولعلّه أفاض في توصيف هذه الأجواء ضمن كتابه (النظرية النقدية.. القراءة، المنهج، التشكيل الأجناسي).
إنّه ناقد يضيق بالآليات الثابتة، حين تتماثل تطبيقاتُها وتتخثّر وتتجمّد، فلا غرو أن يُعلن "موت السرديات" في لحظة غضب منهجي، وفي سياق ثورة على السائد (الناراطولوجي) العربي.
ولعلّ ولَعَه الجامح بمصطلح "التشكيل" (الشعري، وحتى التشكيل السردي!)، في دلالاته الجمالية الهلامية الحرّة، أن يُفسّر رغبته الواضحة في الفرار من مرادفات اصطلاحية أخرى (كالبنية مثلا) التي تشي بمناهج محدّدة، وتقتضي الالتزام ببنودها.
إنّه شاعر النقد، بالمعنى العميق لمفهوم الشاعر في ثقافات لغوية أخرى؛ الشاعر (poète) بما هو الشخص الشفاف المثاليّ الحالم، الحسّاس تجاه كلّ مؤثِّر وجميل، لا الشاعر بما هو "صاحب الشعر"، والذي لا يكاد يختلف عن اللّابِن "صاحب اللبن" والتّامر "صاحب التمر"، كما يُشير إلى ذلك (لسان العرب) بوضوح فاضح!. 
ينتمي محمد صابر عبيد إلى جيل نقدي عراقي جديد، بدأ يتهجّى أبجديات النقد في أعقاب ظهور محاضرات الراحل أحمد مطلوب حول (النقد الأدبي الحديث في العراق)، وهو الجيل الذي تُشكّله أسماء تجاوز صداها حدودَ بلاد الرافدين: عبد الله إبراهيم، حاتم الصكر، صالح هويدي، بشرى صالح موسى، حسن ناظم، سعيد الغانمي، فاضل التميمي، وجدان الصائغ،...
ويسبقها -زمنيا- قليلا أو كثيرا فاضل تامر ومحسن جاسم الموسوي...
ولكن محمد صابر عبيد يتميّز بين هؤلاء جميعا بغزارة الإنتاج، والتنوّع والتحوّل ضمن القوالب المنهجية الحداثية، والتنقّل النقدي داخل الأجناس والأنواع الأدبية من الشعر إلى السيرة إلى القصة إلى الرواية، وإنْ هيمن عليه نقدُ الشعر...
ولأنّه ناقد عصيّ على القولبة فقد استعصى على كتاب (مناهج النقد الأدبي- دراسة لمكونات الفكر النقدي في العراق من 1980 - 2005) أن يُدخله ضمن قوالبه المنهجية، ولم يجد صاحبُه من سبيل سوى نبذه بالعراء 
النقدي!
لكنّ الذي لا ريب فيه عندي أن محمد صابر عبيد هو أكبر الغائبين عن ذلك الكتاب، وهو أكبر المظلومين بهذا التغييب الفادح! وكونُ الكتاب حديثَ الصدور (2014)، متزامنَ الإطار الزمني مع المجال الحيوي لنشاط الناقد، يزيدنا أسفا وشعورا بالظلم الذي حاق بهذا الناقد الكبير؛ لأنّ جدارته بمقام دراسيّ محمود في الفصل الثالث من الكتاب كانت حقا لا ريب فيه، بل ربّما كانت واجبا نقديا وطنيا، قصّر فيه ذاك الباحث الـ (صالح)! ولو بحسن نيّة منهجية!
لكنّ تاريخ النقد العربي سيُنصف محمد صابر عبيد حتما!.