اللحظة الصدريَّة ومتغيرات التاريخ

آراء 2020/06/28
...

علي لفتة سعيد
لم تكن اللحظة الزمنية التي ظهر فيها المرجع الديني الشهيد الصدر الثاني مواتية بحيثياتها ليكون الاسهام الفاعل في تغيير البنى التحتية للعلاقات الاجتماعية والدينية التي تنعكس على المستوى الثقافي العام.. بل كانت تلك اللحظة الصيرورة وكأنها كانت تعارك المنطق القوي للقبضة السلطوية لتأخذ من هامش اللحظة وتكون في مركزها.. المركز الذي كان لا أحد يقترب منه لأنه مركز مسور بالنار والموت.. مسور بالخوف والقوة .. مسور بالقبضة والتردد، فتكون النتيجة هي المعترك الأكثر إيلاما للناس للبحث عن مصدر آخر لشق الجدار والدخول في معترك الحياة التي تحياها الشعوب.
لم تمكن اللحظة الصدريَّة إن جاز الوصف غير أن تولد من رحم الواقع الذي كان الناس فيه يبحثون عن نوافذ للتنفس والرؤية والاطلاع والتخلص من الحروب.. الحروب التي أكلت روح المواطن قبل أن تأكل أمواله وقبل أن تأكل حتى مستقبله، فهي حروب دخل فيها ولم يخرج.. ليس الحروب التي أصبحت سياقات تاريخية بما يعرف حرب إيران ومن ثم حرب الكويت بل هي من عام 1973 وما تبعها، ما كنا نطلق عليها حرب الشمال الاستنزافية وما حصل مع ايران سواء في عهد الشاه او العدو الجديد الذي جاء بالتزامن مع المتغيرات العراقية عام 1979.
أمام خضم الأحداث التي لا تختلف عن الأحداث الكبرى التي شهدها العراق منذ مطلع القرن الماضي والتي جعلت من وجود الحوزة العلمية هي المدار الأكبر للتحرك سواء في سبيل التحرّر كما حصل في عهد الحوزة الشيرازية مع الاحتلال البريطاني او المواكب للمتغيرات السياسية التي حصلت في العراق ما بعد تأسيس الجمهورية والحوزة الحكيمية لتستمر الى الحوزة الصدرية التي وحدت نفسها في خضم الصراع الممتد من الديالكتيك السياسي الى العقيدة الدينية، وذلك الصراع الذي توّج بالمتغيرات السياسية من دولة مدنية الى دولة عائلية تتقلب في مواسم الاسطرلاب ما بين العلمانية والمدنية والليبرالية والراديكالية والاسلامية لتضيع بوصلة الحكم في تلك السنوات التي سبقت حتى الحرب العراقية الايرانية التي كانت أس الصراع الأول، الذي أريد له أن يتحوّل من صراعٍ سياسي الى صراعٍ عقائدي، ومن صراع مصالح الى راع عاطفي من كل الأطراف المتنازعة يبرز الصوت الذي أريد له أن يكون الخطّ المستقيم المتوسط الاعتدالي، الى خطّ المواجه حين أخطأ النظام باحتساب أية خطوة مقابلة على أنها خطوة عقائدية، وبالنتيجة هي خططٌ معادية للدولة بمنظور السلطة، وليس بالمنظور الحقيقي، من دون أن يدرس بشكلٍ معمّقٍ الظاهرة الصدرية التي يمكن أن تولد في لحظة اصطدام الواقع في حيثياتها المتضاربة بين السلطة وديالكتيكها وبين حاجة المواطن وحلمه بالتخلّص من قبضة الحروب والانفتاح الى الحياة.. والخطأ المرتكب من السلطة في تحوّلاتها الاسطرلابية في نهاية الحقبة الصدامية بالتوجّه الى الحالة الإسلامية تحت ما يسمى (الحملة الإيمانية) لمواجهة القبضة الأميركية في الحصار الذي كان عربيًا وإقليميا ودوليا، والحقيقة هي أنها حملة لمواجهة الظاهرة الصدرية التي كانت تتّسع في العراق بشكلٍ لافت، وقد تحوّلت الكوفة الى مكانٍ كبيرٍ لمواجهة الطرف الآخر فكانت السلطة تريد سلب هذا التحرّك وتفتيت أسبابه مقابل إصرار الصدريين على أن يكون المقابل هو تثبيت الولاء والحصول على الحقوق التي أريد لها أن تكون باتجاهٍ واحد..
إن الظاهرة الصدرية كانت تبحث عن مجال لإبراز صوتها وان يكون لها منطق القوة، بل لها منطق التشكيل، التوالد والتوسّع.. لهذا لجأ النظام الى معالجة هذه الظاهرة ومناهضتها بطريقتين، من أجل النيل منها.. وهما طريقتان جاءتا واحدةً بعد الأخرى.. الأولى أنها مرتبطة بالمخابرات العراقية من أجل ضرب الحوزات الأخرى، وان الحوزة الصدرية هي أقرب الى السلطة، بوصفها حوزة عربية في مقابل الحوزات (الفارسية).. وحين لم تنجح هذه الطريقة كانت الثانية وهي أنها حوزة مرتبطة بالفرس وبالثورة الايرانية التي تريد قتل العراقيين، وهي تشارك في حصارهم وقد حارب إيران ثماني سنوات مستغلة بذلك أي السلطة في العراق الحالة العاطفية للشعب العراقي يوم كان الشعب يقسم الى شمال وجنوب ولا يقسم على أساس شيعي وسني، وما يحمله المواطن العراقي من إرث العداوات الباطنة في النفس البشرية بين دولتين وقوميتين وما يحملانه من إرث عدائي كما هو في أغلب بلدان العالم حيث لا نجد دولةً ليس لها بعد عدائي مع دولةٍ جارة إذا لم يكن أكثر من دولة.
 الظاهرة الصدرية التي تحوّلت الى منهجٍ ثوري هي في الحقيقة لحظة ارتباط التاريخ بالمتغيّرات التي يشهدها العالم، بدءا من العولمة وما سرّب منها على أنها ضد الإسلام، وما شكّلته الأبعاد المعادية للإسلام في تطوّرات الفكر الرأسمالي، فضلًا عن الصراع العتيق ما بين العرب والدولة اليهودية في فلسطين..  ولهذا فإن لجوء النظام الى قتل الصدر كان يريد به قتل الظاهرة وعدم بزوغ المنهج.. وما بين الاستشهاد والسقوط ثمة سنوات لم يكن فيها العراق إلّا في منظومة الصراع الداخلي المدفون، والخارجي المعلن، لكنه كان يقاتل باتجاهاتٍ عديدة وكانت عينه الكبرى ممتدة الى تلك الظاهرة التي لا يريد لها أن تنفجر في خاصرته.