ثورة العشرين.. الى الأبد

آراء 2020/06/30
...

 د. سلام حربه

من يقرأ تاريخ العراق سيصيبه العجب كيف أن هذا الشعب بقي صامدا وقويا رغم كل الاحتلالات والأزمات والحروب والأوبئة الفتاكة، حتى أن هذا البلد لم يحكمه عراقي منذ سقوط بابل على يد قورش وحتى دخول قوات الاحتلال البريطاني للعراق العام 1914. العراق دائما ضحية لصراعات المصالح الاستعمارية والدينية التي كانت تحدث فيه. هو أرض السواد وموطن الأنبياء والأولياء الصالحين وهو مهد للحضارة والمدارس الفقهية الدينية، 

فيه تأسست المذاهب السنية والشيعية، ترابه الطاهر يضم أئمة هذه المذاهب، وفي مدارسه تعلم رجال الدين صياغة النصوص الشرعية. العراق ديوان شعر العرذب ومن لم يتخرج من مدارسه الدينية والادبية لن يمنح شهادة الإبداع؛ لأنه لم يشرب من ماء دجلته وفراته ولم يتنفس هواءه ولم يتشبع خياله بجمال القول والكلم وعقله بسديد الأفكار والآراء الحديثة.. هو أرض الثورات والمنازعات الكبرى، لم تأتِ الثورات ومنها ثورة العشرين من فراغ بل هي نتيجة التراكمات التعسفية التي مارستها الامبراطوريتان العثمانية والفارسية وحكام المماليك واحتلالات الأقوام الغازية من القره قويلو والآقويلو، وهما دولتا الخروف الاسود والابيض، وغيرها من الامارات والعصابات المجنونة التي كانت تجد في هذا البلد ما يريدون وعدوه قلب هذا الشرق المهم. ما ان خرجت الامبراطورية العثمانية من العراق العام 1917 على يد الاستعمار البريطاني حتى ابتدأ زمن جديد، فقد عُمل عدد من الاصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية رافقها حصول تغيير في خارطة العالم السياسية وحدوث ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا العام 1917 وشيوع الأفكار الاشتراكية والشيوعية ومفاهيم الوطنية والثورية والعدالة والحرية والديمقراطية التي أشاعها شباب عراقي متحمس اطلع على الأحداث الثورية الجارية في العالم، وحاولوا ان ينقلوا أفكارهم وقناعاتهم الجديدة الى داخل المجتمع العراقي. كان العالم قد خرج من الحرب العالمية الاولى وبدأت المصالح الاستعمارية الفرنسية والاميركية والبريطانية في بلدان الشرق وتم ربط مصائر هذه الشعوب وتقسيم غنائمها من خلال معاهدات دولية جائرة كسايكس بيكو. لم تكن هذه السياسات تمر مرور الكرام بل شعر العراقيون بخطر التبعية للأجنبي لأن الأعين قد تفتحت وظهرت المدارس التعليمية بعد أن كان التعليم محرما دينيا، وأنشئت الصحف والجمعيات والحلقات السياسية الجديدة. كان القرن العشرين قد شكل عهدا جديدا للشعوب حفز العراقيون بالانتباه الى بلدهم، وابتدأ الحس الوطني والرغبة بطرد الاحتلال العثماني وتصدى الشعب له ودارت معارك طاحنة معه. وما ان تم احتلال العراق من قبل الانكليز العام 1917 حتى تعرض العراقيون للمحتلين الجدد في كل المناطق العراقية وكانت ثورة النجف والتي عرفت بثورة (نجم البقال) العام 1918 وقتل القائد العسكري البريطاني ثمرة من ثمرات هذا النضال وهي من أسهمت فيما بعد بإشعال فتيل ثورة العشرين في مناطق الفرات الاوسط نتيجة الجور والفقر والحرمان التي تعرض لها الفلاح والمواطن على يد قوات الاحتلال البريطاني وأذنابه من بعض شيوخ العشائر المأجورين فكانت ثورة عارمة هاجم الثوار قلاع القوات الانكليزية وقطعوا الامدادات اليها وتم تسليب القطارات وقوافل المؤن والاسلحة، وكان شعار الثورة هو مكوار الفلاح الذي يُعمل رأس العصا من القير بمواجهة المدافع البريطانية وكانت الاهزوجة الشعبية (الطوب أحسن لو مكواري) نشيدا للثوار، كبدوا الانكليز الخسائر الفادحة لكن التآمر الذي حصل على الثورة من قبل بعض ضعاف النفوس من الشيوخ والافراد الذين ارتضوا ان يكونوا جواسيس وعبيدا للقيادات البريطانية وبأبخس الاثمان هو الذي حرف الثورة وأفشلها في النهاية وحصل ما حصل من تنكيل بالمواطن الفقير ومعاقبة البعض من شيوخ العشائر الوطنيين، وتم إعدام البعض منهم ونفي البعض الآخر الى جزيرة بمنغهام في وسط المحيط الهندي.. ثورة العشرين شكلت بداية الوعي السياسي العراقي لأن أي ثورة لا يفجرها الفقر فقط بل الوعي بالفقر هو من يديمها ويمنحها الشرعية الاجتماعية ويجعلها خالدة أبد الدهر. حصلت انتفاضات في زمن العثمانيين، دكة عاكف القائد العثماني، حين ثار عليهم العراقيون ودمر الاتراك المدن العراقية، لكن التاريخ سجل ثورة العشرين بداية للصحوة التحررية الوطنية وبداية النظر الى كل الامور بعين العقل وفتحت صفحة من العهد العراقي الجديد تمثل بتأسيس الدولة العراقية العام 1921 وتم تكليف اول عراقي رئيسا للوزراء وهو عبد الرحمن النقيب، وما تلا هذا التاريخ من تغيير وتظاهرات واحتجاجات والتي توجت أخيرا بقيام ثورة 14 تموز العام 1958 والتخلص من الاحتلال البريطاني للعراق.. يجب ان يحتفل العراقيون كل عام بثورة العشرين وان تبقى حيّة في كتب التعليم وعلى المسارح وشاشات السينما والتلفزيون وفي اللوحات الفنية وضمائر الناس لأنها مثلت الروح العراقية التاريخية الوثابة التي لا ترضى بالظلم والجور والتواقة الى المدنية والحرية دائما.