إنَّ عظمة الفن في اقترانه المباشر لحاجات الإنسان، وروعته في التعبير عن أخص مشكلاته وتطلعاته وأزماته، منذ أنْ ابتكر الإنسان البدائي , بعض الادوات البيئية ووظيفتها كأسلحة للدفاع عن وجوده، كالرسوم على جدران الكهوف، أم كأدوات فنية تعينه على تجسيد خلجاته النفسية وحاجاته الجمالية، كالرقص، والغناء والنحت واكتشاف الآلات الموسيقية، ومن ثم استثمار جسده كعلامة سيميائية كبرى، واستغلاله كوسيلة أدائية تستخدم الممثل الجوال الذي كان يعتلي عربته، فيحيلها الى خشبة مسرحية، لتحقيق أحلامه عبر فعل التمسرح التلقائي، ضمن طقس مسرحي جميل ومؤثر، ما يؤكد لنا أنَّ الفن أجمل أصدقاء الانسان، ففيه شفاء لأزماته النفسية، وتهدئة لحالاته العصبية، وقلقه المستدام من جراء ما يعانيه من حروب وكوارث وأوبئة
مبرمة.
فضلا عن دور الفن في إثارة الرأي العام و توجيهه، إزاء أزمة حرجة يمر بها الإنسان والمجتمع، فتتصدى الفنون لها كل بحسب طبيعة الرصد والأدوات والمعالجة.
وبقدر ما تمتلك الفنون السمعيَّة والبصريَّة من قدرات مؤثرة في رصد الأزمات، فإنَّ المسرح فيه من الخصوصية ما يجعله متفوقاً على الفنون المجاورة له في معالجة الأزمات كالأوبئة التي تعصف بحياة الناس، خصوصاً بعض أشكاله التحريضيَّة مثل مسرح الشارع الذي يداهم الناس في أماكن تواجدهم، بقصد توعيتهم وإمتاعهم، ومن ثم تبصيرهم بمشكلاتهم المصيرية على وفق مقاربات إخراجية تكرس لها كل الأنساق الفنية، لكنَّ المشكلة في شح النصوص التي ترصد وتعالج موضوع الأوبئة ومضارها الصحيَّة والاجتماعية
والنفسية.
فقد انشغل كتاب المسرح في الكتابة عن الأوبئة الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والسلوكية والسياسية، من دون تسليط الضوء على الأوبئة التي تستهدف صحة الناس وحياة المجتمعات لخطورتها الهائلة والجسيمة. بهذا الصدد أدعو- مخلصاً - الصديق الدكتور (جبار خماط) صاحب العيادة المسرحية أنْ يكرس جل وقته لدعوة المؤلفين الدراميين بقصد كتابة نصوص تتناول وباء كورونا أو سواه وتقديمها عبر العيادة المسرحية وهي دعوة لجميع الكتاب أنْ يقتنصوا بعض الحالات المرعبة التي رافقت انتشار هذا الوباء وتداعياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم أجمع. ولقد أسعدني الأخ المؤلف والمخرج سعد هدابي عندما أخبرني بكتابة نص مسرحي ضمن نصوص مسرح الشارع يتصدى فيه لوباء كورونا، معالجاً إياه من زوايا مختلفة ومتعددة كعادته أسماه (أرواح جائحة).
إنَّ القصص الكثيرة التي رافقت انتشار هذا الوباء، تمثل ذخيرة حية ورصيداً لا ينضب من الحكايا المرعبة التي طالت المجتمع الدولي، والإنسانيَّة جمعاء وما على الكتاب سوى صياغتها بهيئة دايولوجات أو مونولوجات محكمة البناء، كيما تسهم في إيضاح أسباب هذا الوباء وتداعياته وسبل الوقاية منه، لكي يمارس المسرح دوره العلاجي السليم في ترميم أوجاع النفس الانسانية والتخفيف عن وطأة أثقالها الرهيبة. فضلاً عن النقد الذي يمكن أنْ يوظفه المؤلف للناس والمؤسسات والأنظمة والهيئات التي قصرت في أدائها، إزاء تفشي الوباء، ما يعمق سلطة النقد المسرحي التي تغادر نقد أنساق العرض، باتجاه نقد الناس والمؤسسات ودورها في إنهاء الوباء أم إشاعته، فالخطورة في عمومية الأزمة وليس فرديتها والخطاب المسرحي يعني بما هو عام، على الرغم من أنَّ بعض النصوص الدراميَّة العالمية قد تمحورت حول موضوعات فردية بحتة، كما هي الحال في مسرحيات أوديب ملكاً، وهاملت، وماكبث، وعطيل، وبيت الدمية، وغاليلو، أي أنها ذات خصوصيات سلوكية، لكنْ أريد لها صفة الشمول على مستوى التأويل، في حين إنَّ الأوبئة من الموضوعات العامة دونما حاجة الى تأويلها، فهي شموليَّة، بطبيعتها وقابلة للتجسيد كثيمات مغرية للمؤلفين ذات دلالات واضحة. ولأنَّ المسرح من أكثر الفنون صلة بالناس، فإنَّ تأثيره سيكون كالوباء وسواه مع الإشارة الى أنَّ الوباء يقتل الناس والمسرح يسعدهم.