الحياة على قمة بركانيَّة

ثقافة 2020/07/05
...

عبدالزهرة زكي
من كتاب قيد الطبع، (حياة تتهدد/ محاورات ويوميات كورونا)، تأليف مشترك، لؤي حمزة عباس وعبدالزهرة زكي، يصدر قريبا عن دار شهريار.  بتلقائية بدأ هذا الكتاب، وبالتلقائية ذاتها توقفنا عن مواصلة الكتابة فيه.
هذا كتاب قائم بلا قصدٍ مسبق؛ بمعنى آخر ألا تخطيط، ولا نيّات معدة، ولا من توجهٍ مقرر سلفاً. كلّ ما في الأمر أن حاجةً مشتركة للكتابة والتدوين، حاجة للحوار والتفكير والمراقبة والتأمل المشترك هي ما أنتج الكتاب، وكانت تلك حاجة للانفتاح في زمن الإغلاق.
إنه كتاب يوميات في المقاومة، مقاومة الانغلاق من داخله. 
الكتابة، بوجه من وجوهها، محاولة مستمرة لتحدّي الانغلاق، ودائماً في الحياة ثمة دواعٍ للانغلاق، بينما الكتابة مسعى إنساني للانفتاح. 
هذا كتاب في المحاورة وتبادل التفكير، لكنه بجانب أساس منه كتاب في اليوميات، ومن النادر أن يلتقي كاتبان بهكذا مشروع، فاليوميات عمل شخصي بحت. لكن طبيعة هذا الكتاب، وهي طبيعة شديدة التماس بالظرف التاريخي الطارئ الذي كان فيه الكاتبان بعضاً من العالم والحياة بمواجهة وباء كورونا، هي ما تسوّغ هذا العمل المشترك بكتابة يوميات.
في هذه اليوميات، وقد جاءت بصيغ رسائل حوارية متبادلة عبر واتساب، كان كلٌّ منا يحاول أن يطلَّ من خلالها على هذا الظرف من زاوية نظر قد تلتقي أحياناً أو تختلف في أحيان أخرى مع الزاوية المقابلة. 
في هذا الظرف بات كثير من الناس شديدي الاهتمام بالوضع والتفكير والعيش الشخصي، وفي الوقت نفسه كان الاهتمام منصبّاً على مراقبة الحياة وتطوراتها في الإطار المحلي، لكن هؤلاء الناس كانوا في جانب أساس من اهتمامهم يراقبون العالم والحياة في الكوكب، لا أتوقع أن البشر العاديين، وليس السياسيين وأصحاب المصالح الكبرى، كانوا بمثل هذه المشاعر المشتركة والمتبادلة بالتضامن والإحساس بوحدة المصير الإنساني المشترك كما كانوا عليه في مثل هذه الأيام.
في تاريخ الحداثة الشعرية العربية يجري الاحتفاظ بموقع خاص لقصيدة لنازك الملائكة، إنها قصيدة تجعل بداية الحداثة الشعرية مقترنة بعمل شعري كان عن وباء، تلك هي قصيدة نازك الملائكة (الكوليرا) التي يعدّها بعض المؤرخين والنقاد بداية شعر التفعيلة، بداية تجديد الشعر العربي، وصنع
الحداثة. 
(الكوليرا) قصيدة تعبر عن مشاركة وجدانية من الشاعرة تجاه معاناة الشعب المصري مع الوباء العام 1947، تستعاد ذكرى هذه القصيدة ومعها تستعاد مشاعر المشاركة الإنسانية بمثل هذه الكوارث. حداثتنا اقترنت بقصيدة مكرسة لتحدي وباء.
التنقل والتداخل ما بين الشخصي والمحلي والعالمي كانا يشكلان جوهراً مشتركاً ما بين الكاتبين سواء في هذا الكتاب أو خلال يوميات وجدانهما، وهما يواصلان أيامهما، ومن ثم تبادل يومياتهما، كلاً من مدينته ومنزله. وأحسب أن هذا كان من تصاريف اليوميات المدوَّنة 
هنا.
شخصياً أنظر في أحيان كثيرة بخوف إزاء هذا الوضع المُربك والمهدِّد للحياة عبر القارات وللفرد حيثما كان، خصوصاً إذا ما طال بنا العيش المشترك على مضض مع الوباء من دون نتائج مختبرية تذكر. لكن ما يظل يقابل هذه الأحيان الكثيرة هو أحيانٌ أخرى أكثر منها أكون فيها مطمئناً على الثقة بأن الحياة تنتصر 
أخيراً.
أعتقد بوجوب هذا الاقتران ما بين الخوف من المصير وبين الثقة بالحياة والمستقبل. لن يظفر العلم بحلول ممكنة لإنقاذ الحياة من دون مشاعر خوف حقيقي تحفّز على العمل المسؤول، ولن نظفر بفرصة للحفاظ على الحياة من دون تلك الثقة.
النتيجة العامة والمباشرة لقيمة الخوف تتمثل في تقدير الناس لهذا الخوف والاستجابة له وذلك بتنامي سيادة مبدأ التباعد وحفظ الذات من الآخرين ثم حفظ الآخرين من الذات بانتظار نجاح العلم بالوصول للقاح وعلاج للوباء أو القضاء عليه نهائياً.
والنتيجة المباشرة لقيمة الثقة بالحياة هي ما نعبّر عنها بالحرص على إدامة الحياة والعمل فيها ومن أجلها برغم الخطر المباشر للمرض المحدق بنا. هل أبدو متشائماً حين أقول إن عيش أي فرد مع الوباء قريب الشبه بمن يختار الحياة على قمة بركانية ولا يعرف في أي حين سيتفجر فيها 
بركان.
خف حين يجب أن تخاف ويكونَ الخوف منتجاً، وثق وامضِ بقوة الأمل حين يكون الأمل وسيلتك الأنجع لإدامة الحياة. 
هذا الكتاب هو بعض من ثمرات الثقة بالحياة والخوف عليها، الثقة في أن الحياة ستستمر، والخشية عليها أسهما في صنع الكتاب، من دونهما ما كان للكتاب أن يكون، ولا كان له أن يطمح ليكون بعضاً مما تخلفه ناس أجيالنا المبتلاة لأجيال ستأتي، وستطل من شرفة صفائها وسلامها على ما يمكن أن يريها جانباً من حياتنا ويومياتنا تحت طائلة الوباء الأشد غرابة في التاريخ.
في لحظات معينة فكّرنا، أنا والصديق العزيز الدكتور لؤي حمزة، ألّا نتوقف، أن نتواصل بهذه الرسائل، وبتدوين اليوميات ما دمنا رازحَين تحت وطأة الظرف نفسه، ظرف الوباء، ولكن هل يظل الظرف مجرد ظرف عابر أم سيمسي حياة؟ تستمر محاولات العلم والعلماء من أجل أن يكون ما نمرّ به مجرد ظرف طارئ وذلك بحلول علمية شافية وواقية، وإلى جنب المحاولات العلمية وجهود مؤسسات وعلماء ودول فإن ما ينبغي أن يتواصل هو المعرفة الإنسانية بمختلف تجلياتها الأخرى، ينبغي تجاوز الصدمة لرؤيةٍ إلى ما نحن فيه وما يمكن أن نصير إليه. لا بدّ للفنون والكتابة في هذا السياق من خلق طرقها الروحية لمغادرة الانغلاق والظرف حتى وهي فيه.
كانت الفكرة أن يكون الكتاب بأجزاء متلاحقة، لكن ما حال الآن وقد يحول دون ذلك مستقبلاً هو انشغالات كلينا في مجالات كتابية أخرى والتزاماتنا ومعها جهلنا بما يمكن أن تمضي فيه الحياة وتطورات المرض من جانب ومقاومته من جانب
آخر.
المعلومات التي يسرّبها لنا العلم والعلماء عن الفيروس تظل معلومات شحيحة وأحياناً متضاربة، وحين تجهل حقيقة حالٍ، كالفيروس، وأنت تفكر فيه فعليك التحكم بطريقة تفكيرك وتعديلها أو تغييرها، هذا كل ما تستطيع فعله على وفق الرواقيين. كثير من الأشياء لا يمكننا التحكم بها لكن يمكننا التحكم بتفكيرنا 
فيها.
في الأيام الأولى للمرض في العراق كتبت قصيدة ونشرتها مباشرة في (الصباح)، كان يتصدر القصيدة هذا الإهداء: "إلى أصدقائي وأعدائي دمتم بسلام".
الآن أكرر هذه التحية والتمنيات.