غويانا على عتبة التحول

اقتصادية 2020/07/05
...

هوك غوز  ترجمة: مي اسماعيل 
 
غويانا واحدة من أكثر دول أميركا الجنوبية فقراً، واليوم بعدما اكتشفت شركة "أكسون موبيل" حقلا نفطيا جديدا قبالة سواحلها؛ قد تصبح الدولة الصغيرة واحدة من أغنى دول العالم. فهل سيكون النفط نعمة أم نقمة؟ يبعد الحقل النفطي (المكتشف قبل خمس سنوات) نحو 200 كيلومتر عن سواحل غويانا، التي كانت تسُمى "غويانا البريطانية"، والنفط المستخرج من النوع الخفيف المرغوب كثيراً، والوصول إليه سهل، ويعتقد البعض أنَّ غويانا قد تضخ عند منتصف العقد الحالي نفطاً أكثر من الكويت. 
قبل جائحة كورونا أصدرت حكومة غويانا توقعاً أنْ تصل عائداتها السنوية من النفط نحو ثلاثمئة مليون دولار. بينما يؤكد السفير الاميركي أن غويانا قد تصبح أغنى دول القارة.. والعالم. 
من الصعب وصف كيف يغير النفط (والمال) دولة ومجتمعاً، قد يسهل ذلك لو جاء بلغة الأرقام؛ فبرميل النفط الخفيف يباع حاليا بأربعين دولاراً.. فكيف يفهم صيادو السمك البسطاء ما ستكون عليه حال البلد إذا ضخت أكسون موبيل 750 لألف برميل يومياً.. أو مليوناً؟ السؤال هو- لماذا يجرف الثراء المفاجئ المجتمعات التي يحل فيها؟ ولماذا يكون نقمة عليها أكثر من نعمة؟
 
أفضل ما يمكن تحقيقه
تقع غويانا في الشمال الشرقي لقارة أميركا الجنوبية، بين نهري الامازون وأورينوكو، تحدها كل من فنزويلا والبرازيل وسورينام. عدد سكانها 780 ألفا، ويأتي اليها السياح غالبا لأنها وجهة هادئة لا تستقطب العديد من السياح. ورغم امتلاكها لمعادن البوكسايت والذهب، لكنها تعتمد اساسا على قصب السكر والخشب. أُعيد التفاوض حول الاتفاق الحكومي مع أكسون موبيل في سنة 2017، تركيزا على حصة غويانا من أرباح النفط. كان الاكتشاف قد صار أمراً واقعاً، وهو اكتشاف كبير، ومن الطبيعي أنْ تتغير المواقع التفاوضية؛ إذ تمتلك الحكومة في مثل هذه الحالة موقفاً قوياً. أوفدت غويانا وزير الموارد الطبيعية الى تكساس للتفاوض باسم دولته، لكنه كان تفاوضاً وصفقة بين شركاء غير متكافئين: إذ إنَّ الناتج القومي لغويانا نحو 4.1 مليار دولار، بينما حققت أكسون موبيل مردوداً بلغ 256 مليار دولار سنة 2019. لم تُعرف مطالب الوزير ولا عروض أكسون موبيل؛ لكنَّ اتفاقاً جرى إبرامه حينها. 
 
المرض الهولندي
طالب بعض المسؤولين في غويانا بإعادة التفاوض حول الاتفاق مع اكسون موبيل، الذي اعتبروه مجحفاً بحق غويانا؛ إذ أطلق يد شركة النفط للتصرف بحرية. وأنْ تكون جميع العقود والاتفاقيات علنيَّة طبقاً لمبادئ الشفافية؛ فالسرية تعزز دور الفساد، ولكي لا ينتهي المطاف بالدولة لمواجهة مصير السودان ونيجيريا وغينيا الاستوائية، التي أساء مسؤولوها التصرف بعائدات النفط على حساب الدولة. كذلك يحذر بعض المسؤولين من نموذج فنزويلا؛ التي تملك أحد أكبر احتياطيات النفط العالمية لكنها تعيش أزمات من التضخم المتصاعد والجوع ومعدلات فقر قاربت التسعين بالمئة. هذا ما يدعوه الخبراء عادة "بالمرض الهولندي"؛ إذ ترتفع عائدات التصدير ببيع الموارد الطبيعية، ما يجعل العملة المحلية أغلى، ويزيد من صعوبة التصدير. ولأنَّ عائدات النفط تعد بالثراء السريع؛ تُهمِل الدول المبتلاة بالمرض الهولندي الصناعات التقليدية والزراعة. وحينما تنضب أموال النفط (في وقتٍ ما) أو تنخفض اسعاره (كما يحدث اليوم) تواجه اقتصادات تلك الدول نقصاً في الخيارات. 
 
عاصمة الإرباك
تعدُّ غويانا ثالث أفقر دول أميركا الجنوبية؛ إذ يبلغ متوسط دخل الفرد نحو 5,252 دولار سنوياً، وكان اكتشاف النفط كأنه جائزة يانصيب طال انتظارها. وكان الصخب المصاحب دليلاً على الدرجة التي تغير بها البلد الصغير منذ الاكتشاف. أصبحت الأراضي المجاورة للأنهار ملكية مرغوبة؛ لحاجة الصناعة النفطيَّة لموانئ ومصافٍ. يقول أحد المصرفيين: "تعيش غويانا اليوم "تسونامي" من الفرص"، ويصفها رئيس الوزراء بأنها "مدينة ذهب النفط الأسطورية الجديدة". بينما يرى ناشط بيئي أنَّ صناعة النفط تتبع منهجا استعمارياً. تدفق على غويانا العديد من الحالمين بتحقيق ثراء كبير خلال وقت قصير، ولسان حالهم يقول: لا حدود للأفق؛ لكنَّ أحد المحامين المتخصصين بقضايا الفساد يصف الأمر بأنه.. "قضية خاسرة". تدور في العاصمة نقاشات بين السياسيين وبين الناشطين البيئيين ومدراء الشركات ومحامي الحوكمة، ومسؤولين محليين وأجانب.. تتركز النقاشات على المحسوبية والفساد والطمع.. ولعلَّ خير ما يوصف به الوضع (حسب خبير إعلامي) أن العاصمة باتت.. "عاصمة للإرباك..". 
 
أقل فقراً وليس أكثر ثراءً
كانت غويانا قد قررت مستقبلاً تكون الطاقة فيها من مصادر متجددة بالكامل بحلول سنة 2025.. وفي بلد تقع فيه غالبية المناطق الساحلية المكتظة بالسكان تحت مستوى سطح البحر فإنَّ الابتعاد عن الوقود الاحفوري سيكون مكسباً كبيراً.. ثم جاء النفط. وفقاً للاتفاق مع اكسون موبيل، تحصل غويانا على 52 بالمئة من الأرباح؛ بينما يتراوح المعدل العالمي بين 65- 85 بالمئة! لكن فقرات مخفية أخرى في الاتفاق قد تطيح بالمزيد من مكاسب غويانا بحيث ينتهي الأمر بها أنْ تكون أقل فقراً فقط، وليس أكثر ثراءً.. 
 
النموذج النرويجي
لا تركز أغلب الاكتشافات النفطية على إثراء السكان المحليين، بل تزيد من ثراء شركات النفط.. هناك فقط استثناء واحد ومثال إيجابي: النرويج. كانت النرويج واحدة من أفقر دول أوروبا حتى أوائل السبعينيات، يعتمد اقتصادها على الزراعة والنقل البحري وصيد السمك. ثم جرى تطوير صناعة النفط والغاز، وذهبت غالبية الأرباح (التي حققتها شركات حكومية) لدعم خطط التقاعد العام. كان ذلك تأمين النرويج للمستقبل؛ إذ يُسمح للحكومة سنوياً بإنفاق ثلاثة بالمئة كحد أقصى من صندوق التقاعد على مشاريع مجتمعيَّة. واليوم يمتلك النرويجيون أعلى مستويات المعيشة عالمياً. فهل تتجاوز غويانا مخاطر الفساد والانقسامات العرقيَّة العميقة وسوء إدارة الموارد الطبيعيَّة لتصير مثل النرويج؟ 
دير شبيغل الالمانية