لوحةُ مفاتيح البيانو

ثقافة 2020/07/07
...

محمد صابر عبيد
 
تحتوي لوحة البيانو على عشرات المفاتيح ذات الوظائف المتعددة إذ يختلف كل مفتاح عن آخر وتختلف كل وظيفة عن سواها، وهي تحتاج لضبطها ومعرفة كيفيّة استخدامها خبرة كبيرة لا يجيدها إلا الموسيقيّ المحترف الرشيق الأنيق المتمكن العارف، وتعتمد كفاءة الأداء على درجة المعرفة والخبرة والثقافة الموسيقيّة التي يتسلح بها العازف عن طريق الدراسة والبحث وسعة الاطلاع.
ولن يتمكّن العازف من استخدام المفاتيح كلّها على نحوٍ سليمٍ ودقيقٍ إلا حين تكون معرفته بالآلة كاملة وشاملة وذات مرونة عالية بلا نواقص، وهو ما ينطبق على أيّة آلة أو مهنة في الحياة يكون فيها الأداء إتقاناً وسحراً وجمالاً على قدر المعرفة والخبرة والذكاء والموهبة، إذ كلّما عرف المرء طبائع الغابة أكثر وأدرك خريطتها ودروبها وخفاياها وأسرارها وزواياها ومخاطرها، صار بوسعه التوغّل فيها والهيمنة على لوحة مفاتيحها مهما كانت مخيفة ومعقّدة واللعب الحرّ بين أشجارها وحيواناتها المفترسة والأليفة.
لوحة مفاتيح البيانو هذه لا بدّ منها كي تطرح على الإنسان أسئلة المعرفة باستمرار وهي تختبر إحساسه بالأشياء وذكاء التعامل معها، وتحرّضه على مزيد من معرفة وتحسّس كلّ مفتاح منها من حيث شكله وطبيعته ووظيفته وملمسه، على النحو الذي يساعد في تشغيله بالدقّة المطلوبة التي تتفاعل مع شبكة المفاتيح الأخرى لإنتاج فضاء موسيقيّ هارمونيّ، يقوم على أرضيّة معرفيّة وعلميّة بالغة الدقّة يذهب فيها كلّ مفتاح من مفاتيح اللوحة في أداء مهمّته على النحو المطلوب، وأقلّ خلل في أيّ مفتاح منها سيرتبك النظام الهارمونيّ كلّه لحساسيّة الترابط الإيقاعيّ بين حركيّة الفعل الموسيقيّ للمفاتيح، لذا لا بدّ من معرفة حدود عمل المفتاح قبل التورّط في استخدامه، وقد تحتاج المعرفة فوق علميتها في هذا المجال إلى تحسّسٍ خاصٍّ لملمس المفاتيح وبناء علاقة حسيّة بينها وبين الأصابع التي تلعب
عليها.
تحتوي المساحة العامّة للمفاتيح على تنوّعات مذهلة في الحركات الإيقاعيّة ومدياتها وأطوالها ونتائجها، وهي تمنح العازف المشتغل عليها من نفسها بقدر معرفته وحساسيّته بها بالضبط لا أقلّ ولا أكثر، بمعنى أنّ معرفة العازف النظريّة في أفعال هذه المفاتيح وأحوالها وقضاياها نظرياً هي التي تتيح له إمكانيّة استخدامها على النحو الصحيح والمناسب، وإذا كانت معرفته مقتصرة على جزء معيّن من هذه المفاتيح فعليه أن يقتصر في أدائها عليها ولا يغامر باستخدام غيرها، وقد تكون هذه المعرفة الجزئية خاصّة بربع اللوحة أو ثلثها أو نصفها أو أيّ جزء نسبيّ منها، بما يسمح له استخدام هذا الجزء منها فقط لأنّ توسيع استخدامه بحيث يشمل ما لا يعرف من المفاتيح سيؤدي إلى تشويه ما يعرف، ولعلّ الحكمة التي تقدّمها الأمثال الشعبيّة في هذا السياق تنطبق بدقّة وقوّة على هذه الحالة، فثّمة مثل شعبيّ مشحون بالحكمة يقول: "مدّ ساقيكَ على قدرِ طول لحافِكَ"، لأنّك لو مددتها أكثر ستتعرّض ساقيك للبرد وعندها يصبح اللحاف بلا فائدة.
ينبغي على العازف أن يتحرّك على مساحة اللوحة بقدر معرفته بها وإحساسه بتجلّياتها ولا يتجاوز ذلك مطلقاً، فما يعرفه من اللوحة هو الأرضيّة الآمنة التي يستطيع التحرّك عليها بأمانٍ وطمأنينةٍ وحريّةٍ قادرةٍ على إنتاج الإيقاع المطلوب، أما المساحة المتبقيّة من اللوحة فهي مساحة غامضة ومظلمة وعدوة سيقع في المحظور حتماً حين يضع أصابعه عليها، فمن علامات الذكاء أنّه يستثمر طاقته كاملة وكفاءته كاملة في المساحة التي يعي حدودها ويعرف معالمها ويُحسنُ تدبيرها، ويهمل المساحات الأخرى التي لا علم له بها ولا يسعه العزف عليها بوصفها مناطق مجهولة تقع خارج معرفته.
تنطبق هذه الصورة على الإنسان في أيّ مجال من مجالات الحياة وفي أيّة مهنة من المهن المعروفة، فهو يعمل ويجتهد وينتِج في المساحة والأرضية التي تعرّف عليها بدقّة ووضوح وكفاية، حتى ولو كانت صغيرة ومحدودة، أفضل من المبالغة في العمل على مساحات لا يعرفها حتّى وإن توفّرت الرغبة والطموح، لأنّ الطموح مشروط بالمعرفة، وعلى المرء أن يقرأ بحجم قدرته على الصبر والاستمتاع، ويكتب بحجم قابليته على تدوين الجديد والمبتكَر، ويسكن في المكان بحجم قدرته على تأثيثه بإنسانيته وألفته واستيعابه، ويمشي بحجم ما تتيحه قدماه من خطوات جريئة، ويحبّ بحجم ما في قلبه من ندى وحيويّة وبسالة، ويبتسم بحجم ما في وجهه من نور، ويساعد الآخرين بحجم ما في يده من كَرَم، فمعرفة الحدود أوّل طريق السعادة واحترام النفس.
لا شكّ في أنّ البيانو آلة صامتة لا تختلف عن أيّة صخرة في الطبيعة إلا حين تتحرّك على لوحة مفاتيحه أصابع ذهبيّة، هذه الأصابع لها كفّ تستند إليه، والكفّ مرتبطة بساعد يغذّيها بقوّة الحركة، والساعد نابتٌ في جذع يتّصل بأجزاء أخرى من الجسد تتفاعل فيما بينها على نحو بالغ التناسق والتعاشق، وهذه الأجزاء الجسديّة كلّها في تناغمها وتداخل فعالياتها تتسلّم أوامر الفعل والإنجاز من عقل يمثّل "الكونترول"، يهيمن على كلّ شيء في الجسد ويدير العمليات كافّة بما تيسّر له من الخبرة والثقافة والمعرفة والخيال والإلهام، ولا تتحرّك الأصابع على لوحة مفاتيح البيانو إلا بإشارات منه، وهذه الإشارات تنطلق من قاعدة معلومات ومعارف وإمكانات موثوقة ومؤكّدة وأصيلة، بمعنى أنّ الأصابع أداة العقل وفيض من فيوضه وهي تداعب المفاتيح وتُخرِجُ منها أعذب الألحان دليلاً على جمال العقل ورشاقة الأصابع، في فضاء من الحراك الفنيّ الجماليّ المتكامل فعلاً وحركةً وأداءً 
ونتيجةً.
لا بدّ من صداقةٍ عميقةٍ وحبٍّ شديدٍ بين الأصابع المحمّلة بالمعرفة والخبرة والذوق والإحساس، والمفاتيح التي تحتاج للتفاهم معها -صداقةً وحباً- لألفة ولغة خاصّة لا يدرك مقامها إلا من أرهف سمعه إيقاعاتها الدفينة، التي تحتاج إلى أذن شديدة الحساسيّة كي تلتقط الإشارات الصوتيّة الإيقاعيّة وهي تنطلق من الأقاصي لتفعل فعلها على مساحة اللوحة، وهي علاقة تنطوي على أعلى درجات الوضوح وأعلى درجات الغموض في آنٍ، وعلى من لا يستطيع التقاط هذه الإلماحات الإيقاعية الفريدة عن كثب أن يبحث عن مهنة أخرى، هذه مهنة لا تقبل القسمة ولا الضرب ولا الجمع ولا الطرح مطلقاً، إمّا هي بكامل حمولاتها أو
لا شيء.