البحث عما يفتقده الشعر

ثقافة 2020/07/08
...

جبار النجدي
 
 
 
إذا كان لنا أن ندرك مدى قيمة السونيتة التي يكتبها الشاعر قاسم محمد علي في مجموعته (سونيتات) فلا بد أن نقول إن السونيتة لايكتبها في بلادنا إلا ماندر من الشعراء، ثم نعول على ما تتضمنه السونيتة لديه من إيحاءات ثرية متداخلة يجاذبها طرفا الحب والكراهية، ومن ثم زمن الرثاء المليء بإشارة الحياة وهو رثاء يشبه الرثاء ولايشبهه أيضا، وتمثل السونيتة في الأوان ذاته جوهر حضور الغائب، فنرى حضور السواد في خضرة الأشجار ومشاعر الحب التي تغمر كل شيء بحزنها اعتمادا على الذاكرة التي ترثي حضور الحي وليس حضور الميت وهي ذاكرة إرادية تتضمن الرثاء الشخصي ورثاء الآخر في آن معا، يجري ذلك عبر التاريخ المبعثر للرثاء، وبما أن السونيتة تصنف من الشعر الغنائي فإن الطرف الغالب فيها هو الحب، وبموجب هذا الأمر يحاول الشاعر أن يجد في الشعر مايفتقده الشعر ذاته فيما يحضر المكان على نحو ملفت بل إنه الأكثر إثارة من أي شيء آخر ذلك أن حضوره يأتي بمثابة تمجيد للحياة :
"أبحث عنك مثل فكرة/ مؤرقا ذاكرتي المكتظة بالأسرار/ جاعلا أوصافك مكشوفة وخفية كخطوط كفي/ تاريخا شاخصا في وجه الليل/ دروب عديدة الأفكار شتى/ تحملني اليك/ وتأتي بك عندي/ تقع السونيتة في منزلة / الموقع المتخيل"
في جغرافيا الشعر لدى الشاعر إذ نراه في خضم تجلياته مثل موت مشروط بشبح حينما يتعادل فيها الواقع والمخيلة، وأهم من ذلك حينما ندرك أن الماضي لم يزل حاضرا وامتدادا للحظة لم تزدها التحولات إلا عمقا تلك اللحظة التي تظهر تزاحما لافتا للأضداد تبعا للصياغات الشعرية المؤدية إلى تكثيف المشهد الشعري الذي يتطلب إظهار معاني عديدة متباينة تدل على عبقرية الحدث الشعري ومضاعفة الشعر بما يتسع من الفلسفة، ومن شأن ذلك أن يجعل الشعر 
ليس شيئا آخر سوى نفسه:
" لأن/ فراقك/ يشطرني إلى ضدين/ التقيا كي يتحابا فيك/ منهزمين في آن وكيان واحد" ومايؤخذ بعين الاعتبار هو اشتداد التفاوت الناجم عن البنية الجدلية في أسلوب كتابة السونيتة لدى الشاعر قاسم محمد علي التي تطرح بوضوح (الأنا) النافية للآخر والمتعلقة به في الوقت ذاته، وهذا الأمر ينطبق بصورة متزايدة على أغلب سونيتات المجموعة وبموجب ذلك فإن الجمل الشعرية تمتلك عددا من الافتراضات والتضمينات لتكريس المغزى المختبئ لإعطائه فرصة أكبر للبقاء :
"معك وبدونك/ لاضير في جمعهما معا/ وقت تزهر حسرة في راحتي/ وتتجرد الكلمة من رقيق أثوابها"
ويبدو من المناسب القول إن الأبيات في السونيتة تحمل في داخلها أثر تغيرها، وعلى وفق ذلك فإن كتابتها تفترض حاجات دائمة للتنقيح والمراجعة، وذلك ينطوي على إشاعة ضرب من الديناميكية في الكتابة الشعرية، وإن سلسلة التبدلات المرهونة بالحذف قابلة لان تحيا باستمرار غير أن بعض السونيتات متكاملة من جهة الشكل وغير متكاملة من جهة المعنى، فهناك فراغات لاتلائم السياق الشعري المتنامي، ومع ذلك فإن اختزال اللحظة الإنسانية سمة فارقة من سمات المجموعة : "استقرت ذكراك الطيبة في غدي/ كعالم منسي من جمر ودموع وحجر/ هدوء اسمك هو ضجيج عمري الصامت".
 إن المجموعة تعيد إلى الأذهان الرؤى الحدسية والخيال الذي يلعب بحرية في التقاط ماهو عصي على الاكتشاف امتثالا لشطحات الشعر ومجهولية خرائطه.