اليوتوبيا أو العودة الى عالم قبل الرأسماليَّة

ثقافة 2020/07/09
...

يوسف محسن 
 

 في مقدمة كتابه (في مديح البطء.. حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة لكارل أونوريه) ترجمة: ماهر الجنيدي، يروي الصحافي الكندي كيف قامت الطبقات الرأسماليَّة إبان العصر الصناعي بالترويج لدقة المواعيد بوصفها واجباً مدنياً وفضيلة أخلاقيَّة، وذم البطء والتأخير بوصفها خطيئة.

وكان من أبرز المعالم على ذلك الطريق ما فعله فريدريك تايلور مستشار الإدارة في مصنع بيت لحم للفولاذ في ولاية بنسيلفانيا الأميركيَّة، الذي استخدم في نهاية القرن التاسع عشر ساعة ميقاتيَّة ومسطرة منزلقة لمعرفة الوقت الذي ينبغي أنْ تستغرقه كل مهمة، رافعاً شعار (إذا كان الإنسان يأتي أولاً في الماضي، فالنظام يجب أنْ يأتي أولاً في المستقبل)، ومنذ أنْ رفع بنجامين فرانكلين شعار العام 1784 (الوقت هو المال)، إذ شهد القرن التاسع عشر آلاف المحاولات لتحويله إلى واقعٍ ملموس، ففي المصانع التي نشأت مع الثورة الصناعيَّة كان الرجال والنساء وحتى الأطفال يكدون خمس عشرة ساعة في اليوم، كانت غالبيَّة الآلات الخمس عشرة ألفاً المسجلة في مكتب براءات الاختراع الأميركي العام 1850 مصممة لزيادة السرعة وتوفير الوقت، ليتغير كل شيء في العام 1876 حين نزلت إلى الأسواق ساعة المنبه لأول مرة، ولتبدأ المصانع بعدها بتركيب ساعات للعاملين تدق في بداية ونهاية كل 
ورديَّة.
يقدم كارل أونوريه شرحاً مفصلاً بشأن الأزمة التي يعيشها الإنسان مع الوقت، مع الزمن، مع عقارب الساعة، مع المُهل الزمنيَّة، ومع المواعيد. ويحمل الفصل الثاني عنوان «البطء الجميل»، الذي يقدم لمحة عن حركة البطء العالمية، ويرصد ملامحها الشيّقة. لينطلق بعد ذلك عبر فصول الكتاب إلى تفاصيل تجليات هذه الحركة، وتعييناتها، في شتى جوانب الحياة العصريَّة لإنسان القرن الحادي والعشرين: الغذاء، والعمران، وثنائيَّة العقل والجسد، والطب، والجنس، والعمل، والاستجمام، وتربية الأطفال، مخصصاً لكل جانب فصلاً خاصاً مزوداً بعددٍ كبيرٍ من التجارب والمقابلات والقصص الممتعة، والكتاب يقدم مرجعيات ثقافيَّة متنوعة لفلسفة البطء ابتداءً من مداخل فلسفيَّة عميقة جداً وصولاً إلى تلك التناصات التي أضاءت الكتاب وهي تناصات بعضها أدبيَّة 
وروائيَّة وبعضها فلسفي.
 
نمو الرأسماليَّة وافتراس الوقت
تغذت الرأسماليَّة الصناعيَّة على السرعة، وأصبحت دوريات العمل هي السمة الأبرز للعصر الحديث، وكان بعض ملّاك المصانع لا مشكلة لديهم لو كان العمل على مدار الساعة لأنّ كل ساعة عمل إضافيَّة تعني ربحاً إضافياً له. ثم جاءت فترة بنجامين فرانكلين الذي صمم فكرة (دفع أجور العاملين بالساعة بدلاً من الراتب الشهري لقاء الجهد، لتصبح كل دقيقة عمل ذات قيمة. 
ومع التطور التاريخي انهالت المنتجات العصريَّة التي تمثل السرعة (القطار والمترو والصاروخ والدرج الكهربائي...)، ما يعني تغييراً في بنية الوقت. وأدت ساعات العمل الطويلة إلى تقويض الصحة العقليَّة في بلاد كثيرة، فانتشرت مثلاً في اليابان ظاهرة كاروشي أو الموت من الإفراط في العمل، ودفع إجهاد العمل مليون أميركي إلى التغيب عن العمل، وأصبحت حوادث المرور الناتجة عن السرعة تقتل ما لا يقل عن ثلاثة آلاف إنسان يومياً في المجتمعات
الصناعيَّة.
 
بالضد من العولمة الرأسماليَّة
كتاب أونوريه أصبح بمثابة مانيفستو لثورة البطء في العالم، يبشر بحركة تذهب لما هو أعمق وأوسع بكثير من مجرد الإصلاح الاقتصادي عبر التمهل في الحياة اليوميَّة، في البيت والشارع والعمل والإجازة والفراش، فأنصاره يصوبون بنادقهم نحو صنم السرعة الزائف، يضربون في قلب ما سيكون عليه إنسان عصر
الشاشات. 
يقول أونوريه إنَّ ضريبة العجلة واضحة جداً، والبشر بتعجلهم يقودون الكوكب نحو الانهيار والنضوب والانطفاء (إننا فقراء وقت ومرضى وقت.. أهملنا أصدقاءنا وأسرنا وشركاءنا.. نحن بالكاد نعرف كيف نتمتع بالأمور، لأننا نتطلع دائماً 
إلى الأمور التي تليها). فالعالم يفعل كل شيء بشكل أسرع وما زال يدفع لذلك ثمناً 
باهظاً.
 
يوتوبيا العصر قبل الصناعي
يتساءل الروائي التشيكي ميلان كونديرا، عن غياب الحياة البطيئة قائلا: (لِم اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفيَّة والحقول والغابات الطبيعيَّة؟) وهو بيان للبحث عن اليوتوبيا الما قبل الصناعي، حيث ظهرت تيارات وحركات اجتماعية مناقضة ومعارضة لنظام الحياة السريعة، مثل حركة الطعام البطئ والتي انبثق منها حركات شبيهة كالمدن البطيئة والسياحة البطيئة والقراءة البطيئة والمدارس البطيئة ونادي الكسل وغيرها من الحركات التي تبنت الفلسفة والمبدأ
ذاتيهما. 
يستعرض الكتاب نماذج من هذه الحركات الداعية إلى البطء، مثل حركة (الطعام البطيء) التي تركز في جانب واحد من الحياة هو الطعام الصحي، في البداية، انطلقت حركة (الطعام البطيء) في الثمانينيات، وظهرت جماعات أخرى الأسباب الداعمة لفلسفة البطء، ومن بينها (نادي الكسل) في اليابان، و(مؤسسة لونغ ناو) في الولايات المتحدة، و(جمعية إبطاء الزمن) في أوروبا، وحتى (حركة الجنس البطيء) التي تكافح العجلة في غرف النوم، وحركة (التعليم البطيء) في الولايات المتحدة، ووصولاً إلى (المدن البطيئة) ففي العام 2003 أطلقت تسمية مدن بطيئة على 28 بلدة إيطالية، واتسع الطلب ليشمل عدداً من بلدان أستراليا واليابان والنرويج وإنكلترا 
وتركيا.