العراق.. تدشين الطريقة الجديدة

آراء 2020/07/09
...

حارث رسمي الهيتي
 

يشير أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي الاجتماعي البرازيلي فرناندو انريكي كاردوزو وهو عالم اجتماع وأستاذ جامعي جرده النظام العسكري هناك من المنصب الذي كان يشغله في الجامعة، وأصبح فيما بعد رئيساً للبلاد لولايتين رئاسيتين منذ العام 1995 ولغاية 2003، ثم قاد انتقالاً سلساً للسلطة الى زعيم اليسار العمالي لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، الى نقطة غاية في الأهمية عندما يتحدث عن التحوّل الديمقراطي في البرازيل إذ يقول: 
إن الانتقال نحو الديمقراطية في البرازيل لم يحصل نتيجة الهجوم المباشر على حصون النظام، وإنما بمحاصرته حتى أبدى من هم في داخله استعداداً لعقد صفقة. 
منذ وقت ليس بالقصير والحديث عن الديمقراطية وحولها لا يتوقف، تحقيباً ومراجعةً في أزمنة وأمكنة متعددة ومختلفة، كذلك في ما يتعلق بموضوع الانتقال نحوها، فهو طويل ومتشعب ومعقّد في آن، ناهيك عن صعوبة استنساخه من بلدٍ الى آخر فلكلٍ محدداته وثوابته ومتغيراته، ولكلٍ ظرفه الخاص وتجربته الخاصة. 
في العراق، تكاد تكون الديمقراطية من أكثر المفاهيم التي يتناولها الجميع، المجتمع بتلاوينه والسلطة بمختلف مرجعيات ممثليها، حتى المرجعيات الدينية كمؤسسة فاعلة في عراق ما بعد 2003 لا تستطيع أن تغفل أهمية مثل هذا الموضوع او التعامل معه، ولكن لكل رؤيته وتعريفاته للديمقراطية، مثلما له دوافعه لاقامتها ونجاحها أو عكس ذلك، فمنذ 2003 ونحن نسير في خطوات ثقيلة لبناء – أو هكذا نعتقد - هذه الديمقراطية، نعم هناك اتفاق تام على أن عمليات الانتقال نحو الديمقراطية في العالم تختلف من بلدٍ الى آخر وترتبط بشكل كبير مع مدى تطور الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلد المعني، إلا أن ما ذكره كاردوزو عن البرازيل طبّق عكسه تماماً في العراق في 2003، وهذه حسب اعتقادي واحدة من أسباب تأخر بناء تجربتنا الى الآن، علاوةً على غياب واحد من أبرز مداخيل الانتقال نحو الديمقراطية وهو التوافق الذي يجمع كل تلك القوى التي تنشد التغيير وتطمح نحو الديمقراطية كبديل عن النظام السابق، فكل مقومات بناء الديمقراطية لا تفعل فعلتها ما لم يكن هناك إجماع من قبل القادة والزعماء والمجتمع ازاء قيامها، وهذا ما لم يحصل في العراق، فقوات الاحتلال بوصفها واحدة من أكبر القوى الفاعلة في عراق ما بعد 2003 لم تكن موضوعة الديمقراطية هي شغلها الأهم، كذلك غالبية القوى السياسية العراقية التي عارضت النظام الديكتاتوري الذي رسمه وبناه صدام محولاً إيّاه الى نظام ضارب القوة في جذور هذا المجتمع. 
تقريباً ومنذ قرابة الخمسين عاما شهدنا دخول مفهوم الانتقال الديمقراطي بوصفه فرعاً ومبحثاً مهماً ومفصلياً في علم السياسة، وهو ما يمكن وصفه وتعريفه بأنه تلك الفترة الوسيطة التي تعيشها الدول والمجتمعات بين نظام قد انتهى ونظام تتهيأ للدخول فيه، أو يقصد به بمعنى مبسّط هو كل تلك العمليات التي ترتبط للانتقال بالنظام السلطوي من نظام غير ديمقراطي (تسلطي، دكتاتوري، عسكري، شمولي) الى نقيض ذلك النظام وهو النظام الديمقراطي، وتختلف طرق الانتقال نحو الديمقراطية تلك، فيمكن أن يتم الانتقال من الأعلى أي بمبادرة من الطبقة الحاكمة في النظام غير الديمقراطي ذاته بعد أن تتأكد تلك النخب من أن ليس هناك خطر كبير سيهدد مصالحها ومكانتها، وتذهب باتجاه هذا الانتقال التنازلي حسب ما تسميه تيري لين كارل، وتقدم تلك النخب الحاكمة على هذه الخطوة نتيجة تنامي بعض المشكلات التي تقدم لها الديمقراطية حلولاً ناجحة، فحين تتفاقم الأزمات الداخلية لنظام ما، والحديث هنا عن الانظمة غير الديمقراطية وتعجز عن مواجهتها أو الاتيان بحلول لها، سواء كانت تلك المشاكل والازمات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية وتستشعر تلك الأنظمة بخطر فقدان شرعيتها نراها تلجأ الى تبني نوع مما يسمى بالانفتاح السياسي أو أنها تتحرك باتجاه الديمقراطية لتضمن عدم تغوّل القوى المعارضة لها وسيطرتها على الشارع. وهنا ينطلق غيورغ سورنسن أستاذ السياسات الدولية وعلم الاقتصاد في جامعة آرهوس في الدنمارك في كتابه (الديمقراطية والتحول الديمقراطي.. السيرورات والمأمول في عالم متغيّر) من سؤال رائع مفاده: ما الذي يحث القوى الداعمة للتسلط الى الدخول في مفاوضات تؤدي الى انتقال نحو الديمقراطية؟! ومن جملة الأسباب حسب ما يرى هو أنها تساعد في استعادة الشرعية للنظام الاجتماعي القائم، كما يمكنها أيضاً أن تقدم نظاما مفتوحاً ومنضبطاً لاتخاذ القرار الذي ينتج عنه بيئة أفضل في مجال التجارة والأعمال، كما أنها تقدم دعماً واعترافاً دولياً للنظام القائم، وهذا بحد ذاته يساعد في توفر دعم مادي ومساعدات دولية وقروض أجنبية. ويمكن اعتبار تجربة البرازيل مثالاً واضحاً على هذا الطريقة في الانتقال والتحوّل. 
وهناك الطريقة الثانية للانتقال وهي الانتقال التصاعدي حسب كارل أيضاً، وهي تعني الانتقال من أسفل تكون قوى المعارضة والتي تحظى بتأييد شعبي عن طريق التظاهرات والاحتجاجات وضغوط المعارضة الديمقراطية بتحقيقه، وهنا تأتي الفلبين والمكسيك مثالاً.
وهناك طريقة أخرى بالانتقال تقوم على أساس التفاوض بين الإصلاحيين من داخل النظام غير الديمقراطي القائم والمعارضة من خارجه يؤدي بعدها هذا التفاوض الى تبني خارطة طريق تضمن انتقالاً نحو الديمقراطية، ومثال ذلك ما حصل في بولندا وجنوب أفريقيا. 
أما في العراق 2003 فقد تم تدشين طريقة جديدة في القرن الجديد للانتقال نحو الديمقراطية حسب ما يعتقد، وهي طريقة الانتقال عن طريق التدخل العسكري الخارجي، بعد الإيقان تماماً بعدم قبول النظام الحاكم آنذاك بالتغيير، وعدم بروز قوى إصلاح داخله نتيجه تعسفه وفرط قسوته، فضلا عن العجز التام الذي كان يصيب المعارضة العراقية التي لم تفلح بالإطاحة به لأسباب عديدة منها ضعفها وقوة ذلك النظام ودعم الولايات المتحدة الاميركية له حتى في أشد حالات ضعفه التي لم تستغلها المعارضة استغلالاً حقيقياً.