مسؤولية الشيعة عن مسار دولة الامة في العراق

آراء 2020/07/13
...

ابراهيم العبادي
 
ارتبطَ التأسيس الثاني للدولة العراقية عام 2003 بصعود القوى الاسلامية الشيعية الى قمة السلطة اشتراكا مع الكرد والسنة، وبحسب لعبة الارقام والنسب العددية للمكونات، لم يكن اي من هذه الاطراف الثلاثة والاقليات راضيا عن مساهمته في القرار السياسي والامني وفي ترسيم السياسات الاقتصادية، فنموذج عالم السياسة الاميركي الهولندي ارنت ليبهارت كان يقترح  سلطة تشاركية تنتجها ديمقراطية تتفق على مساراتها الاطراف المكونة للمجتمع السياسي، وقد اريد لهذا النموذج ان يحل الاشكالات العميقة والمزمنة التي رافقت تكوين الدولة العراقية الحديثة منذ عام 1921، ويحقق عدالة التمثيل النسبي في السلطة، ويطمئن الاطراف المختلفة، ويزيد ثقتها ببعضها البعض لتكون الدولة مصلحة مشتركة للجميع، بيد ان هذا النموذج اخفق في ان يحل مشكلة الصراع على السلطة الذي كان  يتعمق يوما بعد اخر، كلما ازدادت التحديات الامنية والاجتماعية وكلما  تراكمت المشكلات الاقتصادية والقانونية التي تصنع وتزيد من الهواجس والشكوك وتضارب المصالح والمواقف، بداية جاءت صيغة التحالف الكردي -الشيعي، او تحالف (المظلومين )، لتكون القاعدة القوية لتحالف سياسي يقود الدولة نحو الاستقرار والديمقراطية، مع محاولات حثيثة لاقناع السنة (بانتاج )جيل جديد من السياسيين يقبل بفلسفة ووجهة جديدة للنظام السياسي العراقي، لكن صدمة التغيير وانكسار اطر السلطة السابقة، وصعود خطاب الهويات الفرعية، وتسعير الشحن الطائفي كسلاح سياسي وتعبوي، اطلق  مشروع الارهاب والعنف السياسي في العراق، بإشكاله المتعددة، عنف السلفيات الجهادية التكفيري، عنف العصابات والميليشيات والاحزاب المختلفة، لتسود الفوضى وليسقط الناس ضحايا بالجملة فخاب املهم بسلام وعمران وازدهار دائم، ولتنمو اشكاليات جديدة عمقت فكر التباعد والعزلة والاحتماء بالهوية الطائفية، وغدت السيطرة على اجهزة ومؤسسات الدولة وسيلة بيد من يجيد استخدام سلطاتها ليرسخ مصالحه على حساب الاخر داخل المكون الواحد وباسم المكون ضد المكونات الاخرى. بعد سنوات من عمر هذا المشهد الملتبس، وجد الكرد ان مشاعرهم القومية اكبر من ان يحتويها العراق الديمقراطي التعددي رغم انهم كانوا اكثر القوى تأثيرا في صياغة دستوره الجديد، واكتشف عوام الشيعة ان ارتباط الحقبة السياسية الجديدة باسمهم لم تحقق لهم العدالة الاجتماعية والسياسية التي انتظروها،  ولم توفر لهم مستوى من الحياة والعيش الكريم كما تخيلوه، لقد ربح سياسيون وحزبيون ومناضلون سابقون ورأسماليون شيعة جددا من السلطة الشيعية، وحصلت فئات شيعية على تعويضات مالية، لكن الجمهور الشيعي في اكثره ظل حانقا وغاضبا، بينما كابد السنة تحولات فكرية وسياسية في اوساطهم كان ايقاعها عاصفا وسريعا ، لم يتح لهم فرصة التأمل والمراجعة، اذ غزت اوساطهم افكار التغيير العنيف المبني على صيغة توليفية من الفكر القومي والهواجس الطائفية وفكر السلفيات التكفيري، وتغلبت هذه الاتجاهات على المشهد السياسي السني بقوة من يفرض سلاحه وعنفه ممازجا الدعاية والاعلام والتحريض، فاستُلب رأي غالبيتهم  التي دفعت ثمن التقاطع اليومي لزعاماتها مع الحكومة  التي يقودها الشيعة .
بعد تجربة تمكنت  داعش من اقامة  خلافتها في اغلب المساحة الجغرافية والاجتماعية السنية العراقية ( 2014 - 2017 )خرجت الاطراف الثلاثة الرئيسة المكونة للاجتماع العراقي بدروس مختلفة وغير متجانسة فكريا وسياسيا عن مستقبل الدولة والهوية الوطنية العراقية، فالكرد لم يبرحوا حلم الدولة المستقلة، وقد عبر سياسيوهم عن مجمل المشروع السياسي الكردي، باقامة استفتاء الانفصال في 25 ايلول عام 2017، وبقيت علاقتهم بالمركز علاقة مصلحة ومناورة مستمرة لا يتذكرون  اهمية وضرورة الدولة الا لاستمداد المعونة والحماية المالية والسياسية للاقليم، اما السنة فقد بات طموحهم ان تزداد قوة تأثيرهم في مؤسسات الدولة والسلطات للدفاع عن مصالح جمهورهم وبناء مدنهم المدمرة واعمار مناطقهم وحماية مصالحهم اليومية،  خصوصا بعد ان تهاوت طموحات استعادة السلطة بفعل متغيرات عاصفة شهدتها عموم  المنطقة، وان لم تغب هذه الآمال لوجود محركات نفسية وتراث سياسي سلطوي ودوافع ايديولوجية وغريزية، وحدهم الشيعة الذي اضطربت عندهم البوصلة كثيرا ، فهم يخشون وصمة ان يكونوا سببا لتقسيم العراق في عهد (حاكميتهم ) وعليهم الدفاع عن حدود البلاد وسيادتها ومصالحها في ظل تصارع مشاريع سياسية عابرة للحدود، وقد تحملوا عبء التصدي للارهاب الاستئصالي، بينما هم  يكابدون فشل النظام السياسي الذي قادوه في تحقيق منجز تنموي  ملموس، فحصل لديهم انقسام عميق بين قواهم السياسية واجيالهم المسيسة وجمهورهم الواسع، كما ازدادت التباينات بين الفاعلين السياسيين والفاعلين الدينيين، وساد احباط شديد من نتائج التجربة السياسية لدى العامة بعد ان اخفق خطاب الدفاع عن مصالح الطائفة في اقناع الجمهور العام بصدقية القوى السياسية، وسبب ذلك يعود الى الصراع والتنافس المحموم على من يمتلك السلطة ويهيمن على المقدرات الاقتصادية ويحقق مكاسب ذاتية وحزبية، فتبددت ثروة مالية هائلة، لم تتحسن فيها نوعية الحياة ولا مستوى الخدمات، ولم تعمر
 المناطق الشيعية او يقل فيها الحرمان والفقر والتلوث، ولم تهدأ البيئة الاجتماعية والسياسة  بما يتيح للمجتمع المحلي التوجه نحو  التنمية والبناء والعمران، لقد انقسم المجتمع الشيعي بين احزاب وفصائل وبيوتات وزعامات طامحة وافتقدوا القيادة ذات الادراك الواسع، وغدا الجميع (يحن )الى الدولة  القوية الفاعلة المهيمنة ذات السيادة، القادرة على مواجهة الازمات والتحديات الداخلية
 والخارجية .
على الشيعة ان يحسموا خيارهم بسرعة، وان لا يضيعوا الوقت بجداليات عن الخيار الامثل للحفاظ على وجودهم ومصالحهم، فهذه المصالح لن تتحقق الا باطار دولة قوية متماسكة وذات قرار وسيادة،  واكثريتهم العددية تلزمهم بالتمسك بهذا الخيار لانه الوحيد الذي يحمي مصالحهم حتى لو استمر الكرد في مشروع الانفصال، وبقي السنة مذبذبين ومترددين في شراكة حقيقية لبناء الدولة، فما دام الشيعة مستميتين في الدفاع عن وحدة العراق وكيانه وهويته، لا بد من ان ينتجوا نخبتهم التي تستطيع بناء الدولة القوية واقتصادها المتحرر من الريع،  وان يتخلصوا من القوى التي ما زالت تؤمن باوهام الكسب السريع والمتعجل بالهيمنة على الادارات واختراق مفاصل الاقتصاد ومراكز القوة والسلطة .
لا ينقص الشيعة العقول المفكرة والكوادر القادرة على الادارة وصنع السياسات، يعوزهم ديمقراطية اجتماعية قادرة على الغاء هيمنة رجال السلطة ومافيات المال والاعمال وتفكيك شبكات الفساد التي افقرت عوام الشيعة وامتلكت القرار رغما عنهم بزعم الدفاع عن مصالحهم، وكل ذلك لن يتحقق الا بنظام انتخابي عادل وشفاف، وحرية وارادة فردية  يعود فيه الشيعة كبناة حقيقيين لنظام العدالة الاجتماعية ودولة المواطنة التي كانوا يحلمون بها،  بعيدا عن سطوة اقوياء الايديولوجيات 
والسلاح  .