د. عبدالله حميد العتابي
اخفقت الدولة العراقية الوليدة في 23 آب 1923 في بناء هوية عراقية واضحة المعالم ،فقرون من الاحتلال العثماني المتخلف، وتأثير الاحتلال البريطاني ،فضلا عن تحيز النخب العراقية الحاكمة التي ادارت دفة الدولة العراقية لخلفياتها الطائفية والقومية وتشجيع بريطانيا لذلك الاتجاه . كل ذلك خلق حالة من الاضطراب والتشويش في خلق هوية جمعية عراقية حتى عام 1958. نستخلص مما تقدم، ان الدولة العراقية المعاصرة في العهد الملكي (23 اب 1921- 14 تموز 1958 )كانت عامل تعويق لتطور مواطنة عراقية ناشئة بسياستها غير الواضحة او المقصودة حيال الاقليات والطوائف الاخرى في المجتمع العراقي ،الامر الذي ادى الى نضوج مفهومين للهوية (العراقوية ) و (العروبية ) اللذين كانا سببا اساسيا للانقسامات السياسية وعدم الاستقرار المجتمعي منذ تأسيس الدولة العراقية، وحتى الوقت الحالي ،فاتجه الكرد والشيعة وبعض الاقليات العرقية الاخرى وبعض الاتجاهات الفكرية والسياسية الجديدة ,وخاصة الشيوعيين الى الاتجاه العراقوي منذ تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين ، في حين اتجهت السنة وبعض الاتجاهات العلمانية الشيعية الى جانب بعض الاتجاهات الفكرية والسياسية الى الاتجاه العروبي الذي كان منافسا للاتجاه العراقوي في تطوير الدولة العراقية بعلاقاتها بالهوية العراقوية او العروبية . وكان ذلك اشكالية حقيقية اضعفت وشوهت الولاء نحو هوية وطنية جمعية
واضحة .
ان الصراع بين المفهوم العراقوي والعروبي للهوية العراقية ادى الى تناحر بين هذين الاتجاهين ، ويمكن ان نلتمس دورهما في غالبية الاحداث الكبرى للعراق منذ تأسيس الدولة العراقية ، لاسيما بعد اشهر من ثورة 14 تموز التي كرست منذ ايامها الاولى لخلق ذاكرة جمعية عراقية لكل اطياف العراق وظهر ذلك جليا من خلال اصدار الدستور المؤقت في 27 تموز 1958 الذي يمكن اعتباره حدثا مهما في تأصيل الهوية العراقية اذ اعترف للمرة الاولى بالشراكة بين العرب والكرد ، واقر الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية . ففي المادة التاسعة من الدستور ضمنت ثورة تموز مساواة المواطنين جميعا امام القانون في الحقوق والواجبات العامة ،بحيث لا يجوز التمييز بينهم بسبب الجنس او الاصل او اللغة او الدين او العقيدة . فضلا عن تأليف مجلس سيادةعلى وفق المادة (20) من الدستور المؤقت من مكونات الشعب العراقي (الشيعة والسنة والكرد) . ليس هذا فحسب فان المادة (10) من الدستور المؤقت ،قد منحت العراقيين حريات الاعتقاد والاديان والحرية الشخصية .وعلى الارض بادرت حكومة الثورة الى احداث تغييرات اجتماعية واقتصادية عميقة مهمة في حياة المواطنين ففي 28 تموز 1958 ،اعلن مجلس الوزراء ،إلغاء قانون دعاوى العشائر الذي اصدرته سلطات الاحتلال البريطاني لدعم نفوذ رؤساء العشائر القضائي والاجتماعي . بان جعلت سلطة القضاء على ابناء العشائر في القضايا المدنية والجنائية ،لقد قسم هذا القانون الشعب العراقي ووحدته القانونية بالتمييز المدني والعشائري ، فبإلغائه حققت الثورة مبدأ المساواة امام القانون .وفي سياق اخر،يعد قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 من القوانين التي حققت المساواة والعدالة في الحقوق الرسمية والعرفية التي شرعتها السلطة ورفض الطائفية والتمييز الذي كان يتسم به المذهب الرسمي العثماني وتوحيد الاحكام الشخصية المناسبة لواقع المجتمع ومتغيرات الحياة دون التقيد بآراء مذهب محدد . والاكثر اهمية في تلك الحقبة ،كان عبدالكريم قاسم هو الزعيم العراقي الاوحد في القرن العشرين الذي قارع النزعة الطائفية في الحياة العامة ،اذ لأول مرة اصبحت الجماعات المهمشة كالنساء والاقليات والشيعة والكرد ، تجد نفسها ممثلة في الحكومة بشكل مؤثر .واصبحت المشاركة السياسية الفعلية امراً ممكناً . وبقى ان اقول ،حملت ثورة تموز وقائدها مشروعا وطنيا ،يحمل في طياته هوية عراقوية ،اساسها المواطنة الحقة ؛ لكن من سوء حظ العراقيين اغتيل هذا المشروع باغتيال قائده، في 9 شباط 1963.