ستراتيجية التجهيل

آراء 2020/07/16
...

محمد شريف أبو ميسم
 

لم تعد سياسة تجهيل الشعوب والأمم مقتصرة على التأثيرات السمعية والبصرية لأدوات العولمة، اذ يعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مطلع تموز الحالي، بتوجيه تعليمات لفروع الحكومة الفدرالية، بشأن اعتماد المهارات بدل الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين، رسالة بالغة الخطورة للشعوب المبهورة بالنموذج الأميركي، وهو يقلل من شأن التحصيل الدراسي، في وقت يقوم فيه على فكرة احتكار اقتصاد المعرفة لصالح شركاته التي تحكم العالم.
واقتصاد المعرفة هذا اقتصاد احتكاري صفري شبيه بلعبة جر الحبل، اذ يفقد الخاسر الجزء المتاح له لصالح المنتصر، فهو يعتمد المعرفة من الألف الى الياء.. مدخلاته معرفة، وعملياته معرفة، ومخرجاته معرفة، معتمدا على رأس المال الفكري وكمية المعلومات المتاحة والقدرة على الوصول إليها، ويختلف اختلافا كليا عن "الاقتصاد القائم على المعرفة"، اذ يعتمد هذا الأخير على المخرجات التطبيقية لمخرجات اقتصاد المعرفة، لذلك يقال ان الاقتصديات الصاعدة تعتمد "الاقتصاد القائم على المعرفة" وليس على اقتصاد المعرفة الذي تحتكره الشركات التي تحكم العالم اليوم، وتنفق عليه سنويا مليارات الدولارات في محاور البحث والتطوير في مجالات تكنولوجيا المعلومات وعلوم النانو وعلوم التقانات الاحيائية. 
بمعنى أن المواهب العلمية حصرا وليس الشهادات العلمية، لها فرصة الولوج الى ساحة اقتصاد المعرفة، إذ أن العمل في هذا المجال يحتاج لقدرات الابتكار وصنع الأفكار، فيما لا يحتاج العمل في مساحات التطبيق لأكثر من متعلمين على إعادة انتاج ما تعلموه. وعلى هذا فإن تضييق المساحة على حملة الشهادات وهم يبحثون عن فرصة عمل في مؤسسات الدولة الأميركية ازاء منافسة المهارات وهي تتنوع بين القدرة على تقديم الخدمات في المسافة الواصلة بين الولاءات والكارزمات، سيدفع وبالضرورة الى البحث عن فرص بديلة لحملة الشهادات في القطاع الخاص ما لم يمتلكوا المواهب العلمية التي ستجد طريقها الى مراكز البحوث والتطوير التابعة الى الشركات التي تحكم العالم.
وبذلك فإن توقيع هذا القرار من قبل الرئيس الأميركي يعد رسالة لقطع الطريق على التعليم، مفادها: ألا جدوى منه في ظل احتكار اقتصاد المعرفة لصالح الشركات، إذ أن دوافع الحصول على الوظائف (داخل الولايات المتحدة) بات متعلقا بالمهارات التي يجيدها الأفراد في مستوى متواضع من التعليم ليس أكثر، فما بالكم أنتم؟، وهي دعوة صريحة لتجهيل الشعوب والعودة بها الى الخلف أكثر مما هي عليه الآن، في ظل تصاعد الاستهلاك لتطبيقات مخرجات المعرفة التي تحتكرها شركات العولمة والتي تدير شؤون العالم، فيما يعيد هذا القرار توجيه أنظار العلماء والباحثين نحو الشركات، لأنها وحدها التي ستعطي القيمة العلمية للموهوبين من حملة الشهادات. بما يعني ان التعليم لن يكون له الأولوية في ستراتيجيات التعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها إلا في إطار اقتناص المتميزين والموهوبين، الذين ستتولى رعايتهم شركات العولمة، وليس للبلدان والدول إلا أن تسعى للامساك بذيل ما تلفظه مخرجات المعرفة لبناء اقتصاديات قائمة عليها وحسب.