حسن جوان
لا يوجد جرحٌ نرجسي أعمق إيغالا في وجدان العالم الأرثوذوكسي من خسارة مدينتهم الكبرى على يد الفاتح، كما لا توجد في المعمورة لديهم قبلة صلاة أكثر قداسة من كاتدرائية القديسة صوفيا (آيا صوفيا). بتمثيل أقرب الى وعينا العربي الإسلامي، فإنّ مدينة إسطنبول لدى الأرثوذوكس، بكاتدرائيتها البيزنطية التاريخية تعادل ثقل ورمزية فلسطين وقدسها لدى الوعي العربي. ولا تزال المناهج الدراسية في اليونان وغيرها وكذلك بتشدد أكبر في جميع الكنائس الشرقية يُدرّس الحلم باستعادة "تحرير" مدينتهم رغم مرور خمسة قرون على فقدانهم لها، لكن "الحلم يموت أخيراً" كما اعتادوا على ترديد مثلهم المعروف هذا. ومع ان هذا التعليم "الحلم" الأرثوذكسي يجنّد مؤسسات كثيرة تعمل بلا هوادة على انتظار لحظة تاريخية مواتية بشّرت بها نبوآت القديسين مراراً، وتحظى بمساندة جميع العالم المسيحي بشكل غير مباشر، إلا أن هذا السند يعوزه الكثير من المؤازرة الفعلية لصالح أكبر قطبين للارثوذكس في العالم وهما روسيا ومعها محور الدول السلافية من جهة وجمهورية اليونان المعنية مباشرة بآسيا الصغرى "تركيا" من جهة أخرى. ويرجع سبب قصور تلك المؤازرة وفتورها الى الموقف المتجذر للروس واليونانيين من الديانة اليهودية بشكل عام ومعارضتهم شبه الصريحة للدولة العبرية بشكل خاص. لذا كانت مواقف هؤلاء على الدوام مساندة ومتعاطفة على مستوى الموقف الرسمي والشعبي مع القضايا العربية في غالب المناسبات واتباع سياسة عدم غض النظر عن السياسات العنصرية والاحتلال.
عندما أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بشكل مفاجئ قبل أيام تحويل متحف "آيا صوفيا" الى مسجد إسلامي رسمي أحدث هذا الإعلان صدمة كبيرة أيقظت الجرح الديني القديم لدى من ذكرت من كتلة مسيحية أرثوذوكسية. وقد نعلم عبر تاريخنا القريب أن هذا المعلم كان رمزاً لسقوط المدينة أيام السلطان محمد الفاتح العثماني، وقد حوّله الى مسجد على أيام سلطنته المديدة وبقي على هذه الصفة والحال الى أيام أتاتورك ليعلنه متحفاً عالمياً معتمداً الإشارة بهذا التحويل الى التصالح مع الغرب والشرق المسيحي وإنهاء الريبة والتوجس من الإسلام، وأكثر من ذلك بكثير كان ذلك إيذاناً عالمياً بعلمانية الجمهورية التركية القائمة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. من هنا يأتي إعلان اردوغان كخطوة نكوصية باتجاه إعادة أسلمة الجمهورية التركية ونفي الصفة العالمية لعاصمتها التاريخية بوصفها جامعة ثقافات "ملتيكالتشر" زاخرة بالتنوع العمراني والعرقي والاجتماعي.
كثيرة هي المساجد التي حولتها الدول المسيحية الى كنائس او متاحف، وكثيرة هي الكنائس التي تحولت الى مساجد في البلاد العربية والإسلامية، وهذا لا يدفعنا الى مناقشة ظروف كل منها بحسب خصوصيته وحساسيته، لكن النظر الى حادثة "آيا صوفيا" لا يمكن فهمها إلا من من خلال سياقها الحالي المتمثل في سيادة حزب العدالة والتنمية برئاسة اردوغان، والى محاولة إعادة بسط الإرث العثماني ومبادئه على جميع مرافق الحياة والثقافة التركية الحديثة.