لسان الأنثى وشفرات العسل

ثقافة 2020/07/19
...

ناجح المعموري
 
صدر ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء في العراق ديوان {أنامل الأمكنة} للشاعر عادل الياسري، وتضمن عددا من النصوص الشعرية عن رحلاته في بلدان العالم. وينجذب القارئ للنص المثير "رامبو" وهو نوع من حوار سريع مع شابة زنجية أفضت لاحتمالات الرفقة كما في النص .
وأثار هذا النص عددا من الأسئلة والاختيارات المعرفية/ والاشكالات الفلسفية. كما وجدته مختلفا كليا عن النصوص التي نشرها الشاعر من قبل. وتباينت هذه التجربة تماما عما كان قبلا. 
وقد اتضح هذا لي عبر قراءاتي المتتابعة لثلاثة دواوين أصدرها الشاعر من قبل. لذا كان التوصل الى التباين سهلا وواضحا، لكنه في الوقت ذاته معقد وصعب، لأن النص دخل وسط متباينات انطولوجية، كان لها حضور من قبل، لكنه حضور بسيط وظاهر، بسبب طغيان الغنائية وسيادة الحكاية في نصوصه المكتوبة بآلية السرد وصعود شعريته. ووجدت في القراءة لنص {رامبو} بأن عادل الياسري استعاض بالصورة وتجلياتها ضمن أنساق السرد الشعري من اجل الوصول الى انطولوجيا الحاضنة للسرد حتى يحوز النص الشعري على انطولوجيا المعرفة، وبذلك يحقق نجاحا مهما وعميقا تدنو منه التجارب الشعرية العميقة، الممتدة نحو أصول ميتافيزيقية. وعند الوصول لذلك يؤكد النص الشعري وراثته لكتاباته الأولى. 
وربما يثار سؤال عن العلاقة مع الأصول البدئية، وما تنطوي عليه من رموز/ وطقوس/ واشارات. واثارة مثل هذا السؤال يعني هيمنة الشعرية بحضورها، لأن الشعر الحقيقي بحضوره القوي هو الذي يحوز نجاحه لحظة الالتفات للوراء، لأن الرموز / والطقوس، تمثل جزءا من اللغة، وروحها النابضة بالطاقات المتنوعة، اللابسة جماليات العتبات البدئية. ويقودنا هذا الرأي بقوة نحو الميتافيزيقيا، لأن الدين حاضر، عبر عناصره البارزة، الرمز/ الطقوس/ الأساطير، وصعود أحد هذه العناصر، يعني بالضرورة سيادة الميتافيزيقية، كما قال باشلار، لأنها – الميتافيزيقيا – هي انبثاق الوجود في طبيعته المادية. 
وهنا تتبلور تفاصيل انطولوجيا المعرفة، من خلال انفتاح السرد، ويحقق التنوعات ذات السيادة في الكينونة، والمانحة للغة هيبة وطاقة قادرة على اشغال الفضاء المتاح لها ان تتعرض له الصورة والرسم باللغة وتوظيف ممتلكاتها الرمزية والعلاماتية.
 اللغة هي مكان الوجود، وهي لسان الكائن/ الحالم بسيرورة تقوده عبر لغته هو، وهي، لأنهما لاينفكان عن علاقتهما معها. 
فلا وجود لكائن بمعزل عن لغته، ولغة الآخر. واذا عرفنا بأن اللغة تستعطي من مرويات الذاكرة/ خزان الماضي، فإنها تقيم رابطة وثيقة مع الحاضر ولكنها لاتدري كيف تتسلل الى الذاكرة في المستقبل، وذلك بسبب كون الذاكرة تمثيلات الماضي وما دامت لم تعش زمنا مستقبليا فإنها تحوز طاقة التخيّل. الماضي البعيد يفيدنا بالتذكّر واستدعاء العديد من الأصوات/ اللغات الحافظة للشعر الخاص بالأصول التي تأخذ صوت الشعر الآن للتجاور مع المقدس والتعرّف على ذاكرته، ذات الإرادة الجوهرية، وأعني بها ارادة ذات لسان، مالكة للسرد والميتافيزيقيا اللحظة التي يتداخل فيها المقدس مع الوجود :
رامبو،/ نبيّ طردته الكنائس / لئلا يرافقني إذ أجيء/ أو يبيع صلبانها/ في حانة الزنج/ برغبة تطفو على وجه العشيقة/ سيّدتي  :/ أصابع الرغبة/ لم تدلّني على ساقيك/ لم تمنح لي المفتاح
العودة للمقطع القصير من النص الكلي، سنجد بيسر ووضوح تمظهرات الأشياء الأنثوية وطغيان الذكورة الذاتية من أجل تعطيل المذكر الكلياني وكأن الشاعر مهموم بتأنيث الأشياء وتذكير ضعيف للأخريات، ربما متأثرا بفلسفة باشلار بشأن التأنيث والمذكر. أو ذهب مأخوذا بفلسفة (ابن عربي) كل شيء لايؤنث، لايعوّل عليه.
وابتداءً هذا المقطع يفضي بالنص نحو منطقة خطيرة تقود المتلقي نحو رامبو الذي صعد عنونة للنص وتميز بسيادة لائقة. 
وأعتقد بأن معاودة الشاعر عادل الياسري الى "المخنث" ثانية محكوما بالقوة التي شطرت شخصية رامبو، موزعا، بين المذكر والمؤنث كما أسس لذلك يونغ واستفاد منه باشلار ووظفه في موضوعته الفلسفية "الذاكرة والمتخيّل" التي عكست نظرية باشلار الفلسفية الخاصة بالتأويل، حيث القوة الظاهراتية التي تحكمت بباشلار، وتخلص منها لاحقا، عندما انحرف نحو التأويل النفسي، كي يدخل الى ثنائية الجندر، المذكر والمؤنث، لكنه أنّث كل الأشياء، لا من أجل سيادة حضور نوع بشري حاز عناصر الجمال وحقق سيرورة الحياة عبر الخصوبة، بل لأن باشلار منح ذاته بوصفه مذكرا قوة خلاقة 
وكبرى.
ووجدت في قراءاتي لهذا النص الشعري "رامبو" هوسا لدى الشاعر بالمتخيّل المؤنث، وتأنيث الأشياء والكلمات كما قال د.أحمد عزيز. وكشفت القراءة بمركز المؤنث {الأنيما المؤنث} حتى يُعلّي من ذكورته ويزاول الإخصاء لذكوريات الآخرين، والمعنى النفسي مكشوف وغير لائذ ودائما مايتميز به الأبطال والنماذج الاستثنائية التي يكون النصف المذكر لديها مع -جسدها – طاغيا ومكتسحا النصف المؤنث. 
ومثل هذه التجربة، وفرت لها اللغة ممكناتها كيفية التصرف والعبور بها من فضاء الإعلان الصريح الى عالم التأثم ولبوس الشعر، وأظن بأنّ الشاعر عادل الياسري وهو يطوف باريس لأول مرة، دخل فضاء الحلم الذي كان غائبا، وتحققت له اليقظة والمعاينة، ومن هنا دائما ما تكون الحلميات أنثوية/ مثيرة للطاقة المذكرة من أجل لحظة حنين الرغبة. ومنحته اللغة فرصة اصطياد الكلمات ليتحكم بها ويصير حالما بها ومتلاعبا بها بالكيفية التي يريد إظهارها راعشة بشعرية التأنيث.
بمعنى وجود المذكر عند تحقق رعشة اللغة التي هي بيت الوجود الحاضن للطرف المؤنث. وما تبدّى في المقطع الذي تحدثنا عنه هو سيادة الحالم باللغة، أعني به الشاعر، لأن مثل تلك السيادة تمكنه من أن يتحول مهيمنا ومتمركزا على المؤنث الذي وفر له فرصة الشعرية. الجسد الأنثوي جسدا فياضا المستدعي بالشعرية المعلنة عن جبروت الاختلاط وبين كلمات اللغة، ومثلما قال باشلار: إذ "تمكن كل واحد أن يجد واحدته" لأن الكلمات تحب بعضها، فقد "خلقت" ككل ما يعيش "رجل وامرأة" فهكذا في تأملات لا تنتهي، استشر القيم الزوجية لكلماتي اللغوية. أحيانا في أحلام شعبية، أوجد الصندوق والبرينة "إناء حفظ اللحوم"، لكن بفرض كل المترادفات العربية التي تتجه من المذكر للمؤنث، لا أتوقف عن الحلم بها. فتتزوج جميع تأملاتي الشاردة، وكل الكلمات سواء تمثلت بالأشياء، بالعالم، بالعواطف، أو بالوحوش، جميعا تذهب للتفتيش عن شريكها أو شريكتها/ د.أحمد عويز /الذاكرة والمتخيل / دار الرافدين /بيروت /2017 /ص152.