يعيش الفرد العراقي في المرحلة الحالية في أتون تناقضات شتى، مصدر البعض منها التراكم القيمي منتجا سلوكا اجتماعيا قد يكون مقبولا هنا ومرفوضا هناك، ولاسيما في درجة انعكاس الصراع بين البداوة والحضارة على شخصيته بناءً على نظرية ابن خلدون في الصراع بين البداوة والحضارة، والذي اشتق منها الدكتور على الوردي فرضيته عن ازدواجية الشخصية،
وعلى الرغم ما حظيت به هذه المسألة من اهتمام بعض الانثروبولوجيين والاجتماعيين، وباحثين في علم النفس وان كانت بطريقة أخرى، إلا أن الحاجة الى دراستها بشكل منهجي يحتاج الى مشروع بحثي متكامل التخصصات، بأدوات بحثية يحتاجها المجتمع اليوم، إما مصدرها الآخر فظاهرة متفاعلة تميزت بديناميكيتها، متصلة بحالة إزاحة العناصر الثقافية التقليدية الى هامش الثقافة العراقية بتأثير وسائل الاتصال الحديثة كقوة محركة للتغيير بدخول عناصر ثقافية جديدة الى منظومة القيم الاجتماعية في المجتمعات المختلفة ومنها مجتمعنا، مبلورة ثقافة اجتماعية شبابية جديدة ستزيح التقليد وتلقي به في الهامش، حتى يتحول الى فولكلور أو ذكريات، منطلقة في المدى الزمني المقبل نحو بناءات ثقافية حداثوية، معلنةًّ ولادة نمط سلوكي بثوب الحداثة يحركه تكوين جديد يرسم ملامح الشخصية الشبابية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو بطريقة إدراكية أو بطريقة انسياقية، بصورة لم يألفها الإنسان من قبل متأثرة بصيرورة التأثير العولمي.
الشخصيَّة العراقيَّة وتراكمها الثقافي
يمر المجتمع الإنساني في سيرورته التاريخية بخط تطوري في تشريعاته الاجتماعية والقانونية، بحيث تصبح تلك المستجدات في التطور التشريعي مستجيبة لوقائع الحياة في كل عصر تصاعديا، حتى يتمكن الإنسان في كل محطة من التطور الحضاري صياغة قوانينه على وفق التقادم الزمني الذي ينتج تغييرا ثقافيا في بعديه المادي والمعنوي، وقد كان العراق مهدا لحضارات تليدة، وفي الوقت نفسه يقع على حافة الصحراء، كما ذهب الى ذلك الدكتور علي الوردي، وإذا كان التحليلي (الوردوي) يفضي الى مسألة شغلت الأوساط العلمية بين مؤيد وناقد ومعارض فإن إسهاماته لا تزال محل جدل وتقدير من قبل مختلف الأوساط العلمية والشعبية على حد سواء، إذ كان المجتمع العراقي مع مطلع القرن العشرين محكوم بسياق ثقافي حداثوي قاده الملك فيصل الأول في عزل الريف أو العشائر عن المدينة في سياق ثقافي له قوانينه من خلال قانون (دعاوى العشائر) وللمدينة سياقها الثقافي التنظيمي الطبقي ينظمه ويحكمه القانون، متأثراً بالأنموذج الغربي في سياقه العام، ومع ذلك لم يتمكن من التخلص كليا آنذاك من آثار التراكم الثقافي القبلي الذي أثر في شخصية الفرد العراقي على الرغم من أن مدن العراق الكبرى بغداد والموصل والبصرة ونسبيا كركوك، تميزت بطابع حضري، إذ ظل الفرد العراقي، وان كان يرتدي الزى الحضري الغربي، ويقتني الوسائل الحديثة، ويتظاهر بها، كأنه ذلك الإنسان الآتي تواً من الصحراء حينما يتغالب مع الآخرين.
زاحة العناصر الثقافيَّة التقليديَّة
نحن أمام مخاض ولادة ثقافة شبابية جديدة تعبر عن نفسها ولا تحتاج الى مرجعيات ثقافية تقليدية، هذا المخاض سواء كان عسيرا أم سهلا، لا بدّ أن يفضي الى تصورات وأفعال سلوكية جديدة يحكمها توغل تأثير وسائل الاتصال الحديثة المختلفة في النشء الجديد الذي سيكون لنفسه بناءات ثقافية جديدة لا تعير أهمية لما ذهب إليه الوردي وغيره من الحديث عن ازدواجية الشخصية، والذي سيكون على المدى المستقبلي القريب أو البعيد غير معني به، وهو ليس تطورا محليا إنما هو تطور عالمي على وفق قانون ثقافي بات يحكم تشريعات الزمن الحديث، ويفضي الى تراكم قيمي يقود الى بناءات قيمية لم تألفها أجيال الآباء والأجداد، وكأنك تعيش حالة من الانقطاع الثقافي بين الأجيال وليس كما كان يعرف بالصراع بين الأجيال.
إن المؤشرات الثقافية المشاهدة للأجيال الجديدة أمامنا تدل على أنها لم تعد مهتمة بالتراثية الاجتماعية المتوارثة عن الآباء والأجداد، فهذه الأجيال تواجه تحديات ثقافية متنوعة منها ما يتعلق بالبناء القيمي الذي يلح عليه الآباء يوميا ولا يجد آذانا صاغية لدى الأبناء بدرجة أصبحت تقلق المجتمع، وعلى الرغم من انتشار المظاهر الشعبية أو العشائرية في المدن، ولاسيما الكبرى أمام انحسار المظاهر الحضرية المدنية، والشيء اللافت، أن هناك انبثاقا من داخل الثقافة التقليدية (الشعبية والعشائرية) ثقافة جيل جديد متأثرة بشكل كبير بوسائل الاتصال الحديثة تكاد أن تتخيل انك أمام ازدواجية في السلوك بين المظاهر الشعبية، وبين منحى فردي (الفردية) في السلوك أمام انحصار للقيم الجمعية، وان حكمت الحاجة في أحيان كثيرة استحضار القيم الجمعية أو استدعاء الحماية العشائرية أمام تحديات يومية قد يصادفها الأفراد، كمظهر من مظاهر إبراز القوة أمام ضعف واضح للقانون، ومن خلال وقفة تحليلية للمشهد ككل وجدنا أن ما يمكن تسميته بالازدواج لم يعد فاعلا بقوته المحركة كما كان سائدا أمام بلورة ثقافة شبابية جديدة ذات منحى عملي أكثر منه سردي مقبل من تراثية الماضي، والذي حلله الوردي شكلا ومضمونا، إلا أن هذا لايمكن التأكد منه اليوم تماما، والشيء الذي يمكن أن يرجح أن عامل إزاحة العناصر الثقافية لدى الأجيال الجيدة مستمرة لتحل محلها عناصر ثقافية جديدة يمكن أن تشكل ولادة حالة من الانقطاع بين الأجيال في العقود الأربعة المقبلة أن لم يكن اقل، وهي حالة تستدعي دراسات معمقة لدراسة الظاهرة بطرق منهجية حديثة وبأدوات مقننة متحررة من الأدوات التقليدية في البحث العلمي.