مُعجَم الهلع

ثقافة 2020/07/20
...


أسعد الجبوري
 
دون كيشوت: وأخيراً وصلتُ لتلك القناعة التي كانت نائمة برأسي منذ قرون.
سانشو: تعني قناعة أن الأرض تدور؟
دون كيشوت: لا يا سانشو. إنما القناعة بأن كائنات الأرض مُشوَّشَةً، وتعيشُ على الأمل الاصطناعي فقط، فالكلماتُ مخلوقاتٌ لا يمكن للمعجم التفريط بأي حرف من اللغة المندمجة بكل ما هو حيّ على الأرض وفي الفضاءات. 
سانشو: كأنك في حلم !!
دون كيشوت: أجل. فما أن نهضتُ من فراشي في تلك الليلة المذعورة مثلي تماماً، حتى شعرتُ بأن مجموعة الكوابيس التي نالت مني في الساعات الأولى من النوم، هي من دفع بي إلى البحث عن نفسي بين أسطر الوجود الضيق المختنق.
سانشو: وهل عثرت عليها؟
دون كيشوت: كانت الكلماتُ تتبخرُ مذعورةً من هول ما كان يجري لها على أسرة المستشفى الغارق بروائح الأحرف الميتة والديتول والسعال والدموع الشبيهة بالجمرات. 
سانشو: ياله من حلم مرعب. هل كنت مصاباً بفيروس الكورونا يا سيدي الدون؟ !! 
دون كيشوت: ربما. فقد كانت الكلماتُ مُعلّقةً على حبالٍ عاليةٍ .تتبخرُ بسكون جامد. ومنها ما يقفُ مَصعُوقاً على أسطر مرسومةٍ في الجو !!
سانشو: وماذا فعلت بتلك الكلمات. هل حاولت إنقاذها من شرور الوباء؟
دون كيشوت: كان الوقت مسرحاً للكلمات آنذاك. وكان الجسدُ أولى الجبال المتنقلة في الطبيعة.
سانشو: كيف؟
دون كيشوت: كانت كلُّ كلمةٍ، تلبسُ جسمَ جبل، وتتقدمُ مشياً في غابات القواميس والمعاجم.
سانشو: ورأيتَ الجبلَ يمتلئ بالأحرف كذلك. يالها من لحظة جنون عظيمة !!
دون كيشوت: ليس ذاك وحسب، إنما جمعت ملايين الأحرف لتطهيرها من الفيروسات الشريرة، حتى أصبحت مصوغات شبيهة بالمجوهرات التي لا تتبدّدُ بفعل الشيخوخة أو العقم أو الأوبئة.
سانشو: أظنُ اللغةَ تستحق تلك المشاق؟
دون كيشوت: وذلك ما فعلته كشاعر. فقد جئتُ بمرآة ضخمةٍ، وتركتُ للكلمات حرية التزيّن بوضع الماكياج والتبرج. إلا أن ظنوني سرعان ما شُطبت بضربة برقٍ مرفقٍ بريح. حينما رأيتُ بعض الكلمات منهمكةً بارتداء القفازات، فيما بعضها الآخر كانت تضع الأقنعة المكممة للوجه.
سانشو: وهل كنت خائفاً من انتقال العدوى للكلمات فيموت الشاعر بداخلك؟
دون كيشوت: كان الشاعرُ يرتجفُ من الحرارة بداخلي كالزلزال، جسدهُ بلا أغطية. وكان يراقبُ ما يجري في المرآة. وجهٌ عارٍ  كصحراء تتناسخُ بالظمأ. وعينان ذابلتان من الشجن وقلة النوم. ولسانٌ كسكةٍ مهجورةٍ لقطارٍ مُقطع الأوصال بلا محرك.
سانشو: يبدو أن موقفك كان شائكاً. شاعرٌ يتدخل في اللحظة المناسبة، فينتزع نفسه من الارتباك، لتخليص ممتلكاته اللغوية من الفتك.
دون كيشوت: أجل. كان واجباً مقدساً. فإنقاذ أي حرف من حروف اللغة المندمجة بدمي وبلحمي وبخيالي الشاسع المشحون بالتصاوير الإنقلابية، تجعلني شاعراً مناوئاً لإبادة الكلمات بعد أن تسرب الفيروس الكوروني إلى مجرى المعجم.
سانشو: تماماً. فعادة ما لا تلجأ الذئابُ إلى الأجساد، إلا حينما تقع أنيابُ بطونها في مَسْغَبة. كذلك الفيروسات، حينما تهاجمُ الكلماتَ، وتجعلُ من أحرفها قطعاً مشلولة الحركة، لا تملك قدرة الالتحام ببعضها، منعاً لنشوء جُمل التعبير !
دون كيشوت: إنها حروب اللغات يا سانشو. فموت كلمة عندي، تعني فتح مقبرة برأس الشاعر. لذلك كانت عيناي تتابعُ هجومَ الفيروس على الكلمات بذهول .
سانشو: هل ثمة ما يَجذبُ الكورونا إلى اللغة؟
دون كيشوت: أجل فللكلمات بروتينات تستفيدُ منها الفيروسات طعاماً لسدّ رمق توحشها المتخم بالأمراض، لتستعملهُ قطع غيار لإثارة الهلع.