محمد عبدالجليل
يتمحور علم لغة النص على الربط بين اللغة والسياق (الثقافي، الاجتماعي، السياسي.. إلخ) الذي ولد فيه النص، فيدرس ما هو داخله وخارجه لذلك فهو العلم الأكثر شمولا.
وكان روبرت دي بوجراند (ت2008) أهم منظري هذا العلم قد اقترح في مصنفه (النص والخطاب والإجراء) سبعة معايير لهذا العلم لتحقيق ما سماه (الكفاءة النصية) التي تعني أن يصاغ النص محتويا على أكبر كمية من المعلومات بإنفاق أقل قدر ممكن من الوسائل.
والتناص هو أحد هذه المعايير، ومعناه أن تشكِّل النصوص السابقة خبرة للنصوص اللَّاحقة، فهي طريقة يتماس بها نصٌّ ما بنصوص سبقته، فيتأثَّر النصّ المنتَج بالسياق الثقافي السابق على إنشائه، ومن ثَمَّ يصير النص فضاءً تلتقي فيه نصوص عديدة بما تتضمنه من رؤى مختلفة، يُحكِم الكاتب مزجها بطريقته الخاصة فيشكِّل نصًّا منسجما متناسقا، وللتواصل السلس بين المنتج والمتلقي، ولفهم أيِّ نصٍّ لا بدَّ من إدراك
التناص.
والدستور بوصفه نصًّا قانونيا يجب أن يتناص مع ما سبقه من تجارب دستورية؛ فما هو إلا نتيجة لسلسلة القوانين والدساتير والنظم الدولية والاجتماعية والفكرية التي سبقته، فهو تعديل عليها وتحوُّل منها إلى نصٍّ جديد، ما هو إلا صدى لها وللسياق الثقافي العام، والمنتِج (المشرِّع) هو وحده القادر على تنويع مصادر التَّناص وتوظيفها في نصِّه بحسب ثقافته وغاياته، كذلك على المتلقي (المشرَّع له) أن يكون مثقَّفا عارفا بالعالم المحيط به، ليتسنى له معرفة مصادر التناص وإدراكها وما ترمي إليه، وقد تنوعت مصادر التناص في الدستور بين القرآن الكريم والدساتير والقوانين السابقة وديباجة الدستور والثقافة الإسلامية والعربية والغربية.
أشكال التَّناص في الدُّستور:
أوَّلًا- التَّناص المباشر:
1 - تناص مباشر تام: هو الإتيان بنصٍّ من دون تغيير فيه، ووضعه في الدستور لأغراض يروم المشرع تحقيقها، كالتناص مع القرآن "ولقد كرمنا بني آدم /الإسراء:70" في مفتتح الديباجة، وربَّما أراد المشرِّع جلب انتباه الأكثرية المسلمة من الشعب، أو الإشارة إليهم ولإسلامية الدولة وطبيعة المرحلة، أو الإشارة إلى مشروعية أسلمة العراق وهذه التفسيرات تضعنا على الأبعاد الدلالية للتناص.
وهذا هو التناص المباشر التام الوحيد مع نصٍّ غير قانوني أو دستوري؛ فغالبا ما جاء التناص مع مواد دستورية أو قانونية سابقة، كالنصُّ على أنَّ "العقوبة شخصية" المادة 19/ثامنا؛ فهي تناص مع المادة (44) من دستور العراق لعام
(1991).
2 - تناص مباشر مجزوء: هو الإتيان بنص مع تغيير جزء منه، مثل: "الإسلام دين الدولة الرسمي" 2/أولا؛ فتتناصت مع "الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد"، المادة 7 من دستور دولة الإمارات.
ثانيًا- تناص غير مباشر: هو الذي يُستنبَط من النصِّ استنباطا، ويرجع إلى تناصِّ الأفكار أو المقروء الثقافي أو الذاكرة التاريخية التي تستحضر تناصَّها بروحها ومعناها لا بحرفيتها، وتُفهَم من تلميحات النص وإيماءاته وشفراته وترميزاته كما تقول عزة شبل؛ فمنتج النصِّ لا يذكُر النصَّ الذي يتناصُّ معه، إنَّما يشير إليه ضمنا، وهنا نوعان من
التناص:-
1 - داخلي: إذ تتناص المواد الدستورية مع ما في الوثيقة الدستورية نفسها؛ ما يشكِّل ربطا وثيقا لأجزاء النص الدستوري، وليس مبالغة القول: إنَّ موادَّ الدستور صدى لديباجته، أي تناصَّت معها، مثل: تناص مواد الباب 3 من الدستور مع ما جاء في الديباجة من أن النظام جمهوري اتحادي ديمقراطي تعددي، والباب 6 المتناص مع تاريخ العراق في الديباجة (الانتفاضة، تصفية قيادات المنطقة الغربية، حلبجة)، ويوجد (113) مادة من أصل (144) تناصت مع الديباجة، وما تبقَّى وهو (31) مادة إنما هي تفريعات عن تلك، ما يعني تناص المواد كلِّها مع الديباجة.
2 - خارجي: وهو تناص المواد الدستورية مع نصوص خارجية، فالنصُّ على أنَّ الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وأنَّه مصدر أساس للتشريع، 2 أولا/أ يُعَدُّ تناصًّا مع قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون/ المائدة: 44"، وأخضع الدستور القوات المسلحة للسلطة المدنية، المادة 9/ أولا/أ، وهو تناصٌّ مع مضمون المادة (5) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، ومن التناص غير المباشر مع دساتير عالمية النصُّ الذي ورد في صلاحيات رئيس الجمهورية، وهو "إصدار العفو الخاص بتوصية من رئيس مجلس الوزراء" 73/أولا، فمما يشبهه من الدستور الفرنسي 1958: "لرئيس الجمهورية حق العفو بصفة فردية"
المادة 17.
ثالثًا: تناصُّ القوالب والتِّقنيَّات: بالتناص اقتفى الدستور العراقي أثر الدساتير والقوانين المحلية والعالمية التي سبقته، محتفظا بقالبها وتقنياتها وروحها فاستمرت فيه شكلا ومضمونا، ما شكَّل ترابطا وثيقا بينه وبينها، ويمكننا أن نجد ذلك في:
1 - تناصُّ العنوان: تناص الدستور العراقي مع دستور جمهورية العراق لعام (1991)، وهناك تناص مع أغلب الدساتير العربية والعالمية، كـ (دستور مصر، ودستور ألمانيا)، وفيه عنوانات فرعية تناصّت مع
عنوانات فرعية لدساتير أخر، مثل: عنوان (السلطة القضائية)؛ فهو تناص مع الدستور القطري لعام
(2004).
• تناصُّ الدِّيباجة: افتتحت الوثيقة الدستورية بديباجة مثل دساتير كثيرة. 2- تناصُّ القالب الدُّستوري: وهو منهج وهيكلية الوثيقة الدستورية كما في الدساتير الحديثة المختلفة. 3 - تناصُّ اللُّغة: "تأثّرت لغة الدستور بلغة ما سبقها من نصوص دستورية وقانونية (مصطَلحات، أحكام، تعريفات).