هان شر زمان.. مرافئ أوليَّة للكتابة

ثقافة 2020/07/21
...

عبد الصاحب محمد البطيحي
 
 
 
إن الكاتب (اسماعيل ابراهيم عبد) يتجه في قصه نحو تكثيف الرمز فيعبر عن أفكاره من خلال الكائنات غير الناطقة إذ تؤنسن الأشياء، يهبها حركةً وسلوكاً، وشخوصه الحكائية أبطال حيوانات، وأبطال أسطورية، توحي بأفكار فلسفية، يبث عبرها اللواعج البشرية، ويترك للقارئ حرية التأويل. نجد هذا على نحو جلي في كتابه (فوتو قص ـ هان شر زمان) الصادر عن مؤسسة العصامي/ بغداد - عام 2020. إذ جاء في 201 صفحة واحتوى (66) نصاً، بعضها لايتجاوز بضعة أسطر.  لنمعن النظر في العنونة: فالفعل "هان" يعني ضعف أو أُستُضعِف أمرُه ولم يعد عصياً. وبهذا فالسارد يبتغي إيصال فكرة أن شر الزمن لم يعد عائقاً أمام طموح الإنسان الذي يمثلُ الإدامة والمثابرة في خلق بيئةٍ صحيحة نبيلة.
ورد على (ص33 حياة غضة وفظة) "كل ما فيها يترتب على تكافل الآكل بالمأكول، وعناصر الوجود لا تتمثل بغير وظيفتها، ووظيفتها تمتثل للحاجة، وما ينتج منها من عدم"، يتكون العنوان من ثلاث كلمات: اسم تعقبه صفتان.. اللافت للنظر أن الصفتين متناقضتان. الصفة الأولى تعني النضارة والريعان والسهولة، بينما الثانية فتعني الخشونة والوعورة والجفاف. 
إن المعنى الظاهري للعنوان هنا هو أن هناك حياةً مستطابةً وأخرى يسودها النكدُ، غير أننا نستطيع أن نتوصل الى المعنى المستتر الذي يتمثل برسالةٍ الى القارئ مؤداها أن علينا أن نتقبل مصائرنا على نحوٍ ليس فيه إفراط في الأمل لدرجة الاسترخاء، وليس فيه انحدار نحو اليأس حتى درجة الانكفاء، ثم يأتي المتن الذي يبدو متمماً لمقولة العنوان، فيفرز لنا نظرة فلسفية تشير الى أن الكونَ يسير ضمن حركةٍ غير عشوائية، كل عنصر في هذا الوجود له وظيفته المرسومة. في نص الشيء (ص55) نقرأ:
"إنها رائحة لـ (شيء) ما، تُحرّكُ فيها طاقةَ الجوعِ والتشهي الى الحد الذي يجعلها تسترخي لامتداد أرجلها وملامستها (للشيء) دون إرادتها. تستدير بفكها نحوه، بقضمة واحدة صار ببطنها.. اعتصرته.. هرسته.. إنه (شيء) يستجيب بسرعة لسوائل التحليل.. إنه يوزع أثره في جسمها، لعله مخدر.. 
ها هي تنتشي وتتمدد.. / تنسى الجوع والشهوة/ تسمع هسهسات اصطدام أرجلها ببعضها/ ها هو دماغها يسترخي ثم يتوقف عن النشاط.
 ها هو "الشيء" يوقف جسمها عن أي حركة/ ها هي عيناها تبحلقان في لاشيء الوجود!/ أخريات من الفئران رأينها ولم يفهمن سر هذه النشوة المميتة، فائقة الدهشة!".
عنوان "شيء" يتكون من كلمة واحدة، هي في ظاهرها ومغزاها تشير الى مفردة كل موجود، سواء كان اسم مادة ملموسة أو اسما معنويا يحسه الوجدان قريبا منا تتشربه دواخلنا، ليس لنا إلا أن نواجهه في كل لحظة، ويقتضي الأمر منا اتخاذ موقف صائب، هو في حقيقة الأمر خلاصة تجاربنا في الحياة.
هنا يتحقق التعميم لينطلق السرد بعد ذلك الى المتن، إذ يكوّن هذا إطاراً يحتوي الفكرة. والظاهر من المتن هو فأرة جائعة، تغريها رائحة غذاء ما، تنجذب الى مكانه، فيتضح ان فيه مادة سامة مخدرة حالما تقضمه، ينتهي الأمر بها الى الموت. أُستُخدِم الحيوانُ وحركتُه هنا  للإشارة الى معنى ضمني ينسحب على الإنسان وحركتِه، في عملية إيهام، تندرج ضمن جماليات النص، تبتعد عن الغموض الذي يفقد النص كثيراً من تعاطف القارئ، ولا يصلح إلا في النص البوليسي. فبرزت صورة متحركة لفأرة بعينها، خضعتْ حركتها لعامل الجوع وما نتج عنه لاحقاً من نشوة وتمدد، أعقبه استرخاء، ظهر بعدئذ، إنها خضعت لمصيدة.
رسالة النص هنا هي أن الحاجة لشيء (ما) تمنح الإنسان قوة دافعة ومُلحّة للحصول على ذلك الشيء، (الحاجة) ليندفع نحوها في غياب التبصّر لما سينتج عنها، خاصة اذا ظهرت أمامه سهلة المنال، لكنها تضمر في طياتها مغريات يصعب ادراكها، فهي حصيلة تدبير خبيث. وما يزيد الأمر سوءاً هو غياب القدرة على استيعاب التجربة واكتساب الخبرة المناسبة لتجنب المخاطر. لنقرأ ثانية: (حرب ص70):
"حمامتان متقاربتان  ... عشاهما في أبطن النخلة ذاتها.. انسابت الحية الى قمة النخلة فأَكلت بيضةً من العش الأول وبيضةً من العش الثاني دون أن تخلف أي أثر أو دلالة حتى لو كانت رائحة. حينما عادت الحمامتان فوجئتا بنقص البيض.. ظنتا السوء بكل منهما.. تقاتلتا حتى الموت. حين عاد الذكران وجدا بيضتين مكسورتين وحمامتين قتيلتين.. لم يستطيبا رائحة العشين فطارا الى نخلة أُخرى، سلام 
آخر".
العنونة (حرب) كلمة واحدة، غير أنها ذات معنى شامل لا يختصر حركة البشرية منذ الأزل حسب، إنما يتضمن ما يمكن أن تفعله الموجودات الحية على اختلاف أنواعها. لـ "الحرب" وسيلة عدائية ووطأة شديدة ونتائج مدمرة. ربما هي حركة عبثية، غير أنها سلطوية، تختلف عن "الصراع الذي يمكن أن تتعدد مظاهره وليس بالضرورة أن ينتهي بالحرب. ومن هنا ينطلق النص منسجماً مع فكرة العنوان. اما ظاهر النص فيشير الى (حية) تأكل بيضتين تعود كل واحدة منهما الى حمامة، تقاتلت الحمامتان حتى الموت نتيجة سوء الظن، أما 
الذكران فقد غادرا المكان الى مكان آخر.