المواطن وظاهرة التشكيك وعدم الثقة بالسياسات الحكوميَّة

آراء 2020/07/22
...

محمد عدنان محمود *
 

اجتهد الكُتّاب والباحثون في التنظير للظواهر الاجتماعية التي تطرأ على المجتمعات، والبحث عن أسبابها وتأثيراتها وانعكاساتها. يقول غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجيا الجماهير: "يجب على الفيلسوف الذي يدرس الظواهر الاجتماعية أن يضع في اعتباره أنها بجانب قيمتها النظرية، لديها قيمة عملية، وأنه من وجهة نظر تطور الحضارات، فإن هذه الأخيرة هي الوحيدة التي تمتلك بعض الأهمية".
نمر يومياً بالعديد من الظواهر الاجتماعية، وهي بطبيعتها انعكاس لواقع المجتمع وما يحدث فيه من تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، بفعل ما يواجهه الفرد من ضغوطات الحياة وتحديات المعيشة، من ظاهرة الانتحار الى ارتفاع نسب الطلاق الى عمليات الانتقام والقتل داخل الأسرة الواحدة الى الفصول العشائرية لمختلف الأسباب، الى المخدرات والادمان، فضلا عن التعصب للمذهب والقومية، وصولاً الى تجزئة التعصب داخل الفئة الواحدة والمذهب الواحد. 
 يضاف إلى ذلك طبيعة الشخصية العراقية في التعاطي مع السياسات الحكومية في مختلف المراحل الزمنية لبناء الدولة العراقية، إذ قامت العلاقة بين المواطن والدولة على مبدأ التشكيك وعدم الثقة بالسياسات التي تتخذها الدولة حتى أصبحت هذه الحالة ظاهرة مستدامة في واقع المجتمع. الأمر الذي يدفعه الى عدم تصديق أية إجراءات او سياسات تُتخذ من جانب السلطة السياسية التي تحكمه، وهذا انعكس على ثقافته السياسية إما أن تكون غير مهتمة بتلك السياسات والإجراءات، وفق اصطلاح اللامبالاة السياسية او التبلد السياسي كما يصفه علماء الاجتماع، او أن تكون ثقافته السياسية عنفية ثورية تدعو وتتجه نحو التغيير، ويتخذ أسلوب العنف هذا اما تصريحات إعلامية او تظاهرات مناهضة تطالب بالتغيير الشامل.
مثل هكذا ظواهر وحالات لا بد أن نناقشها بكل جرأة وحكمة وسرعة اتخاذ القرارات للحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه، وهذا لن يتحقق بسهولة من دون أن تكون هناك مسؤولية تضامنية حكومية ومجتمعية، تلعب فيها المؤسسة الدينية والعشيرة الى جانب الحكومة دوراً بارزاً ومهماً وحيوياً لوقف تداعياتها. وحين نضع هذه المؤسسات الى جنب بعضها في ايجاد الحلول ننطلق من واقع مجتمعنا العراقي الذي تعد فيه العشيرة والدين جزءا أساسا من تكوينه، وهذا يرتبط بالعرف الاجتماعي كإحدى وسائل الحلول المقترحة، فضلا عن دور الحكومة بصفتها لها سلطة القانون وإدارة الشؤون العامة للدولة، فهي مسؤولية مشتركة بين الأعراف والتقاليد وبين القانون.
وبقدر تعلق الأمر بظاهرة التشكيك وعدم الثقة بالسياسات العامة للدولة، يمكن النظر الى طريقة تعاطي المجتمع مع انتشار فيروس كوفيد 19. إذ اتسم هذا التعاطي بعدم المبالاة بالوباء على رغم من سرعة انتشاره والتشكيك بوجوده أصلا في بعض الأحيان، فضلا عن عدم الثقة او الامتناع عن الالتزام بالشروط والضوابط التي وضعتها الجهات المعنية في الدولة. 
 
المواطن ومسؤولياته..
لقد واجهه المواطن بسخرية واستهزاء الى حد عدم الشعور بالمسؤولية من قبل البعض منهم، والتندر في القول إننا واجهنا كل صعاب الدنيا من حروب الى حصار الى إرهاب وتشريد وتجويع، أضاعت أجيالاً من الصحة والتعليم والعدل والمعرفة، فأصبح المواطن يقول: هل أن الوباء سيأخذ أكثر مما أخذت غيره من المشاكل والتحديات؟، ونجد مواطنا آخر يقول بلغة العراق التي أتعبها الزمن: ماذا تريدون أن أفعل، تطلبون مني البقاء في البيت؟، وما هو المقابل، من يوفر لقمة العيش؟، هل فكرتم في الأطفال التي تنتظر من ولي أمرها ما يسد رمقها للبقاء على قيد الحياة؟، وماذا عن فاتورة مولدة الكهرباء من سيدفعها؟، هل ستتحمل كورونا الفاتورة بدلاً عنا؟، هذه التساؤلات وغيرها هي لسان حال المواطن البسيط.
 يكفينا أن نعطي الكاميرا لمواطن ونقُول له تكلّم عما يجول بخاطرك من هموم وتطلعات، فنجده يخرج ما بجعبته من حقائق مؤلمة يتعايش معها وتتعايش معه بشكل يومي، ويريد حلولا سريعة لها، هو لم يعد يؤمن بالخطابات ولا التصريحات ولا الوعود هو يريد حلولا تسابق الزمن.
من هنا نعرف لماذا المواطن لم يلتزم بحظر التجوال، ولم يلتزم بدعوات التباعد الاجتماعي او عدم حضور المناسبات الاجتماعية؟، قد نجد هناك من يقول: إن المجتمع العراقي لم يكن هو الوحيد الذي لم يلتزم أفراده بتحذيرات مخاطر الوباء، فهناك مجتمعات قريبة حولنا أيضا لم يتحمل مواطنوها مطالب الحجر المنزلي الإجباري وغيرها من الشروط، ولكن في ذات الوقت مثل هكذا مجتمعات لديها البدائل التي تقلل - الى حدٍّ ما - من مخاطر الوباء وتمنع انتشاره الواسع، فهي لم تتعرض لمشاكل اقتصادية وصحية وبيئية مزمنة او حروب وإرهاب مثلما تعرض له المجتمع العراقي من مشاكل طيلة العقود الماضية، وهي لم تعان من تقاطعات سياسية وتجاذبات أثرت في المواطن بالدرجة الأساس. 
 
هل بدأت الحكومة خطوات الحل وإعادة الثقة؟
إن الحاجة ماسة فعلاً لدراسة الظواهر الاجتماعية التي يمر بها البلد بشكل معمق، لمعرفة أسباب عدم التزام المواطن، وكيف يمكن إعادة بناء الثقة بالإجراءات والسياسات التي تتخذها الدولة؛ لأنّ هذا الامر ينعكس على العديد من الظواهر التي يفترض أنْ تعمل الدولة على معالجتها مستقبلاً.
لذلك فأمام رئيس الوزراء والحكومة مهمة عسيرة، ليس فقط في تطبيق البرنامج الحكومي الواعد بحل المشكلات الحالية المستعصية، وإنما بالوجود السريع الفاعل مع كل مشكلة موجودة او تطرأ، علينا أن نتعامل مع وعي المواطن وتفكيره وثقافته، المواطن يرغب أنْ يجد المسؤول أمامه في كل مكان ويسمع صوته بمنتهى الأريحية. إنّ الزمن الذي على الحكومة اختزاله هو القدرة على قيادة المسؤولية من موقع أدنى تتجاوز البيروقراطية الإدارية الاعتيادية. 
أنا لا أشك مطلقاً أنّ صانع القرار يعرف كل النظريات التي فسرت الظواهر الاجتماعية التي ذكرناها او غيرها من الظواهر، ويعرف أنها انطلقت من أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهو يعرف جيداً أن التأخير الذي حصل طيلة السنوات الماضية في وضع الحلول الجدية السريعة والواقعية هو الذي أفقد المواطن ثقته بدولته وزاد نقمته عليها؛ لذلك فالتحول للقيادة من موقع أدنى ومواجهة كلِّ مشكلة مهما كانت صغيرة وبشكل عاجل وفوري ومتابعتها اليومية لضمان حلها بشكل كامل، وتقييم الحلول التي اتخذت وكيف انعكست على المواطن، هو المنطلق الأساس لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. نأخذ على سبيل المثال بعض الخطوات الأخيرة لرئيس الوزراء، ومنها للذكر كيفية معالجة موضوع أزمة الاوكسجين وتوقفه في المصانع، كيفية معالجة أزمة مستشفى الحسين في الناصرية، كيفية معالجة موضوع أزمة الوقود في المولدات، متابعة مشاكل وزارة الكهرباء بشكل مباشر، وأزمة المنافذ الحدودية، وغيرها من الخطوات الميدانية التي اتخذها رئيس الوزراء، إنها خطوات مهمة ومفيدة جداً لكونها لم تكن فقط قرارات وتوجيهات وإنما تواجد ميداني مع كل مشكلة من المشكلات أعلاه.
هكذا سياسات وإجراءات تعطي شعوراً للمواطن أنّ صانع القرار قريب منه ويتصدى للمسؤولية، حتى أنّه لا يخشى مخاطر الوباء وآل على نفسه أنْ يحتك مباشرة بالمواطنين، وهذه خطوة تحسب له، وهي يمكن - لو استثمرت بشكل صحيح - أن تعيد الثقة بالدولة وبإجراءات الحكومة، ولكن تبقى مع هذه الخطوة متابعة القرارات التي اتخذها رئيس الوزراء وتوجيهاته الى الجهات القطاعية والفنية وتقييم عملها وإظهار النتائج التي تحققت الى وسائل الإعلام والمراهنة على عامل الوقت، أي بمعنى وضع حدود فاصلة بين لحظة اتخاذ القرار وبين تطبيقه وانعكاسه على المواطن.
ختاماً لا بدّ من القول إن المواطن لم يعد معنياً او مهتماً بعمر الحكومة وقصر مدتها، او أنها جاءت لقضية محددة هي التهيئة للانتخابات أبداً. المواطن معني بمقدار الخدمة التي ستتوفر له، وهي أساس تقييمه لعمل الدولة ومؤسساتها.
* باحث أكاديمي