ماذا فعل الشعر بحياة العراقيين؟
ثقافة
2020/07/23
+A
-A
استطلاع/ صلاح حسن السيلاوي
يدخل الشعر في حياة العراقيين وتتسرّب أدواته الفنية الى لغتهم، فقد لا يفارق الفرد منذ ولادته إلى وفاته الشعرَ الممتزج بحالات كثيرة في حياته، فمن غناء الأمهات في المهود، ثم الصبا والمراهقة، إلى مظاهر الشعر المتعددة من أهازيج الوفيات والحروب والمناسبات الدينية وأناشيدها، والأغاني المحتشدة بالشعر كالمقامات والأطوار الريفية التي لا حصر لها، فضلا عن الأغاني المصاحبة للزراعة والرعي.
لقد صاحب الشعرُ يوميات العراقيين حتى أثر في حياتهم وصارت عناصره من بلاغة وخيال ومجاز وغيرها تفعل ما تفعله بلغتهم وأفكارهم. عن ذلك استطلعنا آراء نخبة متميزة من شعرائنا.
أخيلة الحياة اليوميَّة
الشاعر والناقد الدكتور رحمن غركان يرى: أن حياتنا التي تمشي على أجنحة من وحي الخيال هي التي تجدد حياتنا التي تمشي على قدمين، ويؤكد: أن العراقيين مسكونون بمهيمنات الشفاهية التي يتسيّدها ويحكمها الشعر، ويوضح غركان ذلك برأيه:
حياتنا اليومية، هذه التي تمشي على قدمين، وتلك التي ينسجها الخيال بأساليب كثيرة: منها الكلمات، مادة الشعر الأولى. ومنها، الألوان مادة التشكيل والرسومات عامة. ومنها، الحجر مادة المنحوتات والعمارة عامة ومنها، النغم مادة الموسيقى، وما أدراك ما الموسيقى؟
ومنها الجسد مادة فنون هائلة، تحيط بها الحركات ولا تؤديها الكلمات، مثل: الرقص، والبانتومايم، والرياضة بأنواعها الكثيرة جدا، وغيرها الكثير. لا شكّ أن حياتنا التي تمشي على أجنحة من وحي الخيال، هي التي تطور وتجدد حياتنا التي تمشي على قدمين في طرقات الأيام، بل وتبث الحياة الحقيقية المتطورة المتجددة المتعددة فيها، وبمعزل عن حياة الخيال، لا تستمر حياة في
الواقع.
وأضاف بقوله: ولما كنا نحن العراقيين مسكونين بمهيمنات الحياة الشفاهية فإن فنون القول ستحضر أكثر من غيرها، وسيدها؛ الشعر سيكون مهيمنا، غالبا، موجها، حاكما، في ممكناتنا وموجوداتنا: في الغناء نغني الشعر، وفي البكاء ينهمر الرثاء دمعا من أبيات وقصائد، وفي الفرح ننشد الشعر، وحين نتغنى بالمعاني الحاكمة أو العابرة فإن الشعر زاد ذلك التغني، وحين نوجز كثافة الأشياء في البال أو في الواقع أو في الخيال، فإن الشعر هو الفن الذي نلجأ إليه، ونلوذ بكلماته وأخيلته التي
لا تنتهي، الشعر أنفاس ألسنتنا حين ننزع إلى تكوين الأشياء أو الإمساك
بتلابيبها..
الشعر يبتكر العناصر لا يستعيرها
الشاعر والدكتور عمار المسعودي ذهب إلى شعرية الحياة بشكل عام فهو بإجابته المحملة باللغة الشعرية يرى أن العالم وتمظهراته لم يكن إلا ما يريده الإنسان من أحلام، فقال: لم يكن العالم أو الكون بعناصره وتمظهرات وجوده الأرضية وحتى السماوية سوى مايريده الإنسان من هذا الوجود من أحلام تزهر هنا وتذبل هناك، تتعثر بحجرة مرمية في طريقك سهوا أو قصدا لذا، تقف لمنعٍ أو لرغبة في الإيقاف تصل حدَّ الزهد، أو تكون فتتفايض الأنهار تحققاً وزهواً ونكوصاً
وعطشاً.
كل شيء تداخله يد الإنسان يكون تدوينا شجرا ثمرا ظلا شمسا ضوءا حبا كرها، وتصير قيما مجاميع كل تلك الملموسات، وتصير عقائد راسخة عميقا لا أحد يعرف موعد ابتدائها ولا مواقيت انتهائها.
العالم وعناصره ومتضاداته التي خلقت جدل الوجود بعدِّه محركا للأنساق ومصففا للمتوافقات حتى تنساها مرة بغية عدم تكرارها ومرة تقوم بالتذكر اقترابا من فخرك في متتابعاتها.
من هنا لا سؤال ينجحُ أو يفخرُ بإكمالِ أجوبةٍ عن الشعر، هذا الكائن الطباقي الواقع ما بين الملاك وبين الشيطان بين الروح والمادة أو بين اللفظ والمعنى؛ هذا الكون الذي لايشتق أبداً من كائن كونه لم يكن يوماً ولم يستقر حاولته أفئدة العاشقين والكهنة والمعلمين والمحاربين والناصحين والخادعين، لكنه سرعان مايراوغ كل ذلك متفلتا كأنثى تتلوى غنجا في غابة رجال.
وقال أيضا: لا شيء وليس فيه شعر من الأطلال المركز القلبي للقصيدة إلى السماء إلى الأرض والسهل والجبل إلى النوافذ إذ تغلق النوافذ وتفتح إلى قميص يرفرف على خيوط شمس شوق أو السحابة إذ تغيث بالخير وتمطر بالشر إلى نار الجواد حينما تتأجج إلى نار القاتم المنزوي مثل قطعة أثاث مهملة إذ
تخبو.
تأتي المفاهيم عنه متأخرة مثلما يعتذر ولهان عن سرقة قبلة أو مثلما يريد ساهٍ أن يتذكر أو مغمور لمشاهدة أو حتى تصدُّرٍ.
ليس لك أن تحصي ما يقول الشعري لمن يحاول لملمة ثوبه الطويل لعروس اللغة في ليلة زفاف فتأبى اللغة وتصدُّ العروس حتى الخذلان، الشعر الشوارع خالية ومزدحمة الليل بحزن أو بفرح، الأب غائبا أو حاضرا، الكراسي فارغة ومملوءة، المقاعد عليها أرقام الحاجزين وسيرة أسمائهم أم تخلو من كل ذلك، البساتين بحمى أثمارها أو جدبها، الحقائب تحوي فرش ومعاجين الأسنان وآلة الحلاقة التي استعرتها بآجل تسليم بعيد. الشعر هو الذي يبتكر العناصر
ولا يختارها.
الحياة المدلَّلة بالشعر
الشاعر عادل الصويري وصف الحياة العراقية بـ (مدلّلة الشعر) لافتا الى أن الشاعر والإنسان العراقي يحولان تفاصيل الحياة اليومية الى فنتازيا بقوله: الحياة اليومية العراقية أراها مدلّلة بمغازلة الشعر لها، والاقتراب منها. والجميل في هذا الغزل أنه جاء فطرياً لا علاقة له بمدارس الشعر أو نظرياته، أو متبنيات شعرائه، فهذه المغازلة للتفاصيل الحياتية يمكن الاستدلال عليها لحظة قراءة بواكير الشعر العامي الدارج، وخصوصاً لون (الدارمي) الذي يسمى (غزل البنات) فكثير من أبيات هذا اللون الشعري مندسة بشكل عجيب ولافت بتفاصيل حياة
الإنسان.
ولأنك ذكرت في سؤالك تفاصيل منها (الولادة) فإنك سهّلت عليَّ الاستشهاد ببيت دارمي قَلَبَ فيه الشاعر كل المفاهيم بشكل رائع فيقول: (متعجبه هالنسوان تطلكَ فرد يوم/ وطلوكَي بالساعات كل ساعة أذب توم)، لاحظ كيف استعار هموم الحياة، ونسب فعل الطلق وآلامه قبل الولادة الذي يختص بالمرأة إليه وهو
الرجل.
وهذه ميزة سواء للمجتمع العراقي أو الشعراء العراقيين لا فرق، وهي تحويل تفاصيل الحياة ويومياتها إلى فنتازيا
لذيذة.
وأضاف الصويري: في الشعر العراقي المعاصر، أجد أن كتاب النص النثري كانوا أكثر من غيرهم في الالتحام بتفاصيل الحياة اليومية، وأعتقد أن جنوح الأشكال الأخرى (عمود/ تفعيلة) إلى كتابة اليوميات جاء لإدراك الشعراء أن الزمن الحديث لم يعد خاضعاً لجبروت اللغة وسطوة المجاز، خصوصاً بعد أن شاهدوا أقرانهم النثريين وقد غاصوا عميقاً في اليوميات، فما كان منهم إلا تطويع إيقاعهم إلى ما يناسب هذه
التفاصيل، بعد أن أدركوا
أهميتها.
وبذلك ارتفع مستوى التغلغل الشعري وكل شاعر حسب فلسفته ورؤيته، لكنهم اتفقوا بشكل غير مباشر على إدامة زخم التفاصيل وجعلها ترتقي عبر سلالم فلسفية وجودية، أو روحانية صوفية، وصولاً للعقائد حتى أعادوا صياغة هذه المسميات عبر تشعير الفعل اليومي، أو لنقل دمجها بعضها ببعض إذ تكون التفاصيل اليومية الرابط المحكم الذي يربطها ليجعلها بعيدة عن
الترهل.
تقرأ مثلاً صدراً لأحد الأبيات يقول شاعره: (بقربته مياهُ وجوه أهلي) ولو فككت عناصر هذا الشطر تجد أن (القربة) تحيل إلى رمزية تتعلق بحادثة كربلاء وهي رمزية دينية، ثم (ماء الوجه) بمدلول اجتماعي يستخدم في الأمثال الشعبية، والكلام اليومي المتداول، وفي هذا تأكيد على أن اليوميات صار لها الحضور الفني والرؤيوي في القصيدة التي لن تستطيع الصمود والبقاء من دون أن تعوم بتفاصيل يومية بسيطة وعميقة.