ابتهال بليبل
ربّما نحتاج الآن إلى استعادة الذاكرة وترميمها مع "الرسائل" الشخصية العتيقة بوصفها استرجاعا افتراضياً للصوت الخفي الصادر من أعماق المرسل إلى أذن المستلم.
الصوت إشارات تتراكم وتتكاثف حول الكلمات المكتوبة وكأنها هالة شفيفة تساعد هذا المتلقي أو المستلم في تجسيد ما ينطّ بمخيلته لحظة حضورها، وكأنه يفّك شفرات مطلسمة تعتمد على مواقف دالة لمرجعيات ثقافية واجتماعية تستند برمتها إلى ما يخضع لفهم هذه الذات، والاقتراب منها بقصدية هيمنتها
عليه.
وهنا تصير القصدية تابعة لفهم ذات الآخر، إلّا أنّ هذا الفهم لا يمتلكه الجميع بالمعنى الحقيقي، ومن ثمّ فالفهم رهين بهذه المرجعيات التي تكتسح حياتنا على شكل طاقة تولّدها الكلمات المكتوبة التي تحمل الصوت الخفي، أظن أنني الآن أفكر بالرسائل الشخصية ليس بكونها من الماضي أو الحاضر، بل في الصوت الخفي الذي تصوره الفلسفة (بصدى العالم الذي يصدح في الرأس).
طاقة الصوت الخفي تتبع نهجاً ثقافياً آخر يُعنى بالذات، وتُطرح عبر الكتابة، وكأنها محاولة للاستماع إلى الأصوات الخفية للآخرين.. وبذلك تُولّد الرسائل الشخصية شعورا بأنها أفكار سرية تهدم بالضرورة العلاقة بين صمت المرسل وصوته، إذ أن هذا الهدم يحقق للتأملات العابرة قيمتها كالإعجاب والاشمئزاز والانزعاج وغير ذلك، من خلال تحريض الشخص للكشف عما بداخل أعماقه.
تستوقفني هنا عبارة للمؤلف والموسيقي جون كيج (لمن يعتقد أن الصمت مجرد سكون أو طرش: أتشك بوجود الصمت؟ حسناً اِذهب إلى غرفة مفرغة، وأنصت إلى تنفّسك، وإلى توتر جهازك العصبي، هذا هو الصمت، إنه مليء بالضجيج)..
لقد رفعت هذه المقولة الغطاء عن الصمت كضرورة لكشف الصوت، وبصورةٍ أكثر دقة، فإن الرسائل الشخصية هنا أو كلماتها المكتوبة هي لكشف الصوت المخفي عن
الآخر.
من هنا، فإن الرسالة الشخصية من الأفعال العاطفية التي تعكس ضمنيا شخصية المرسل المرتبطة بثقافته في مجتمعه وبالآخرين في شكل يعتمد بالأساس على استحضار التأملات والمواقف والرغبات المتراكمة بالذات كصوت لا تنتبه له إلّا ذات المرسل نفسه. وحتى يتخلص من ضعفها يحتمي بالأصابع عند كتابتها كلمات
برسالة.
أعتقد أن الكثير منا يقوم بذلك في بعض الأحيان لكنه لا يركز على ما يفعله إلّا نادراً، تتفاجأ عندما تبدأ بتدوين كلمات ورسوم غير مفهومة أو مرتبة على ورقة من كتاب أو دفتر أو جريدة أثناء العمل أو اجتماع ما، وإن انتبهت لهذا الأمر يخبروك أنها تجليات نفسية يطغى عليه القلق والتوتر.
ومع ذلك فهو استنتاج ليس مغايرا لفكرة الرسالة الشخصية، فهو يعد وجود فعل التدوين القائم من دون تركيز الوعي له يرتبط بالدواخل النفسية، بينما الصوت الخفي يظل عالمه الذات ولا يخرج منها إلّا إذا تم تدوينه بوعي.