علي شايع
ما نريده من المؤرخ، في الغالب، غير ما يغدقه كاتب الرواية التاريخية من إبداع، وبالأخص؛ حين تأخذ هذه الكتابة مَزِيَّة وتفصيلا بعينه، يبحث في الإنساني والتاريخي بتوازٍ وتلازمٍ متكافئين.
هكذا وجدت رائعة الكاتب اللبناني ربيع جابر؛ روايته التاريخية (دروز بلغراد- حكاية حنا يعقوب) الحائزة جائزة البوكر لعام 2012، وباستحقاق، لما صوّرته، بدقّة، واتقان، وإجادة، من تفاصيل الفجائعي الإنساني، لفترة حيف من الزمن العثماني، استنطقها الكاتب المميَّز، بلغة استثنائية، وسرد مرّ على أحداث ووقائع، سيدرك القارئ، من خلال ما يشدّه من نص باهر، وقدرة في تجسيد منطوق اللحظة التاريخية الغابرة، أن كاتبنا قضى بالفعل أوقاتاً وهو يمسح أرشيف الدولة العثمانية، جاعلاً قارئه يستدعي في ذهنه رعب ماضيها، ووهن الإنسان في ذلك الزمان.
لعلّ انهيار الدولة العثمانية المدوي كان نتيجة للظلم والتعسّف الذي واجهت به من حكمتهم؛ بالجهل، والنار، والحديد.. ظلمٌ لن يفصح عنه التاريخ ملياً ولا المدوّنات رغم حداثة زمانه، ولا يمكن لروايات تاريخية الإلمام به، تاماً؛ على حقيقة قسوته.
لكن المبدع ربيع جابر حاول ونجح بكتابة (فيلمية) ترسم لك سيناريو على الورقة، وتتركك ملامساً لأدق الحيثيات، فتأخذ بك الى بُعدٍ سينمي ثالث من السهل الممتنع، لتبصر على الورقة عنف اللحظة أحياناً، وتشمّ رائحة زهور برية يجمعها أسير أعمى على جبل
المنفى.
الرواية عن أوضاع لبنان بعد حرب أهلية ومجازر جرت بُعيدَ منتصف القرن التاسع عشر. حنا يعقوب مسيحي من بيروت؛ بائع بيض متجول، في اللحظة الخطأ سيبيع بيضاً مسلوقاً على أرصفة المرفأ؛ المكان (الخطأ) الذي أقتيد فيه متقاتلون دروز، بعد حربهم الأهلية ضد المسيحيين (الموارنة) سنة 1860، يوم صدر القرار العثماني بنفي 550 درزياً إلى السجون العثمانية في بلغراد، عقاباً عن تهم بجرائم قتل.
حنا يعقوب في غفلة زمنية وجيزة يصبح ضحية؛ يقتادونه بديلاً عن سجين درزي حرروه ومضى مع والده الذي دفع رشوة للضابط العثماني.
البائع المسكين يحاول إنقاذ نفسه قبيل أن يصعدوه سفينة النفي، منادياً على القنصل الفرنسي: "أنا حنا يعقوب مسيحي من بيروت، بيتي على حائط كنيسة مار الياس الكاثوليك". القنصل الفرنسي لا يفهم ما يقول، فيسأل المترجم العثماني، فيخبره أنه يقول: أنا قتلت حنا يعقوب؛ مسيحي من بيروت، بيته على حائط كنيسة مار الياس الكاثوليك!. ومن تلك اللحظة الرزيئة تبدأ رحلة دموية لسنوات طويلة، يكابد فيها البريء أهوالاً مفزعة، ومشقة تبهض الصبر، تاركاً زوجته هيلانه وابنته الصغيرة بربارا نهباً لكوارث ستجاهد الزوجة في مواجهتها؛ أملاً بعودة الغائب.
الرواية تقص نزراً يسيراً من وقائع تُبين عمق الشرخ في الدولة العثمانية، وبدء مرحلة (رجل أوروبا المريض)؛ تعريفاً للدولة المتداعية بسبب كبر حجمها والتحديات الداخلية والخارجية التي كانت تواجهها.
الاستذكار التاريخي، ربما، يختلف عن سرد روائي نرى من خلاله ظلالاً غائمة الملامح لشخصيات سلاطين حكموا. نماذج وإن كان الكاتب مرّ به لمحاً، لكنه سيترك في نفس القارئ العربي استغراقاً تاريخياً لحكومات و(حرس خاص)، وسجون استنسخت التجربة العثمانية باستفاضة.
الكاتب ربيع جابر في حكايته أبان مظلومية منفيين عبروا خرائط مديدة، وعُملوا ببهيمية وقسوة لا تمت لدين أو عرف إنساني بصلة، ولم يشغله سوى الانغماس بواقعة سجناء حصدهم التعذيب والوباء، لنبصر من خلال مجاز صغير رؤيته كروائي تاريخي لعموم مأزق الدولة العثمانية وقتها، والملمات التاريخية المزامنة لتلك الفترة، ليتجلى جهد الكاتب باستحضارها، وبثها بعناية على فصول وشخصيات الرواية
بذكاء.
الكتابة عن "تلك العتمة الباهرة"، كما يصف الطاهر بن جلون السجن؛ موحشة وصعبة، وكل كتابة وقراءة عن تجربة من هذا القبيل، ستعيد سؤال الوجود: الى أي مدى يستطيع الإنسان الحفاظ على إنسانيته- أكثر من جسد ينجو به الى خلاصه الأخير- ليبقى محافظاً على موثقِه الأهم؟.. وإنها لعميقة وجوهرية تلك التجارب التي تركت لنا أرشيفاً عن هذا السؤال: "أسجنٌ وقيدٌ واغترابٌ وعِسرةٌ.. وفقد حبيب! إن ذا لعظيم.. وإن امرأ تبقى مواثيق عهده.. على كل هذا، إنه لكريم". كما يقول الشاعر السجين أبو فراس الحمداني.
حنا يعقوب البريء المظلوم بقي على عهده، وسؤاله الصامت عن القدر الإنساني، يتردد صداه في كلّ الأرض، وما تراكم من ظلم في ثناياها، ومن رعب سجون وقلاع، قبل أن يلج إبن يعقوب -المسيحي البريء حدّ الحكمة- في المتاهة، إذ يخرسه هلاك الكثيرين من حوله، وتفجّع الباقين منهم، والذي ولّد لدى المتضادين قديماً، والمجتمعين في مصير وأصفاد واحدة الآن، شعوراً جديداً بالتعاطف والحاجة الى الألفة والتواصل الإنساني الأعمق.
أماكن مرّ بها السجين حنا يعقوب بدول البلقان كالصرب والهرسك وكوسوفو. أراضٍ حكمها السلاطين بالبطش والأخذ بالشدة، ستضاعف اللوعة بنفس من يتذكر منا، الأهوال العاصفة بهذه البقاع، ولعنات حرب أهلية جرت من قريب، ساحتها مدن متفجعة، منها بريشتينا؛ مكان تعذب حنا يعقوب وسجن لخمس سنوات إضافية بسبب سرقته بيضة واحدة!.. محلّ كانَ تكرّرت مصائب من أخرجوا من ديارهم بملابس النوم، قبيل نهايات القرن العشرين!، ليقتلوا أو ينفوا بعيداً عن بلادهم.
جرائم مهولة مسكوت عنها، وكأنها بانتظار مبدع جديد لنكتشف حكاية إبن يعقوب آخر. فهل تراه سيموت في منفاه، أم سيعود بعد خراب العمر راضياً بغنيمة الإياب؟.