ثروة الأمم!

الصفحة الاخيرة 2020/07/26
...

 جواد علي كسّار
 

لا أقصد الإشارة إلى كتاب الاقتصادي الاسكتلندي المعروف آدم سميث، في كتابه المشهور «ثروة الأمم» بل إلى الباحث والوزير التونسي الراحل مصطفى الفيلالي، بكتابه القيّم «مجتمع العمل». فالفيلالي يذهب إلى أن ثروة الأمم تتكوّن من العمل، لكن ليس أيُّ عمل، بل العمل المثمر: «بالعمل تُجبى الخيرات، ومن الجهد يحصل الرزق، وعلى بذله معاش الفرد وأهله، ومن مأتاه ثروة الأمم».
من الوسائل الفضلى للعمل المثمر، ربط العمل الإنساني بالوقت وتثمير الزمان، والعناية ببيئة العمل خاصة في الإنتاج وقطاع الخدمات، وإلا فإهمال البيئة المناسبة يؤدّي إلى هتك حرمة العمل، وهدر في انفاق الوقت، وارتفاع كلفة الإنتاج، وتبديد للثروة الوطنية والمال العام، بتعبير مؤلف «مجتمع العمل» هو: «إتلاف لزاد الوقت الذي هو أنفس زاد في أوطاننا»، لكنه زاد مستباح بالانحطاط والتفاهة، ونعمة مكفورة.
على أن مشكلة العمل والوقت في بلادنا، ليست قيمية وحسب، بل هي تنظيمية أيضاً: «وقتٌ كثير يضيع على العامل، وهو مباشر لعمله، بسبب سوء النظام أو انعدامه في مكان العمل». من هنا فإن تنظيم العمل غُنمٌ للوقت: «نحن في أوطاننا العربية قوم متلافون لأوقات العمل، مبذّرون لثروتها من بين ما نبذّر من ثروات، مستخفّون بشأنها لا نرى في الحصة المتاحة للعمل سوى ساعات متلاحقة، على خط أفقي بعضها من بعض،  وجميعها فراغ متاح للإنفاق والتبديد».
يعمّق الباحث غياب تثمين أوقات العمل، من خلال مقارنة الواقع بنماذج من مجتمعات عمل الآخرين، ليجد أن إنتاجية العامل العربي تساوي ثلث إنتاجية العامل الأوروبي في ألمانيا أو بلجيكا مثلاً، وتنحدر إلى الخُمس بالقياس إلى إنتاجية العامل الياباني أو الكوري، ومن ثمّ فإن الأرقام تقول ان العامل العربي لا يملأ بالعمل المجدي، أكثر من ثلث ساعات وقته، وان البقية حضور بدن وحسب، وان أجره الذي يتقاضاه هو غالباً مكافأة عن الحضور في ميدان العمل، وليس لعمل منتج يقدّمه.
وبذلك تهدر قوى العمل العربية من أوقات العمل يومياً، بين أربع إلى خمس ساعات من الثماني ساعات، وتأخذ أجراً على ما لا تستحقّ، وان الإنتاج الحاصل لا يزيد على الثلث.
بحساب بسيط يقدّمه المؤلف انطلاقاً من افتراض أن قوى العمل في العالم العربي هي بين 50 - 60 مليوناً، يجد أن هذا المسار ينتهي بنا يومياً إلى خسارة مئتي مليون ساعة عمل يومياً، تُضاف إليها الخسائر الناشئة عن ساعات العاطلين.
في درس آخر يأخذه من التجربة اليابانية، يسجّل أن النمو الذي حققه هذا البلد وأدّى إلى زيادة الناتج الإجمالي لاقتصاده، يرجع خلال ثلاثين عاماً متتالية، إلى القوّة العاملة بنسبة 57 ٪، في حين لا تزيد نسبة الاستثمارات في هذا النمو على 23 ٪، ونصيب التكنولوجيا 29 ٪ فقط.
وبذلك لا سبيل لنهضة بلداننا إلا سبيل العمل والكد المتواصل، بأخذ زمام الوقت وتسخيره للإنتاج وتثميره بالإبداع، لأن: «للزمان ثمناً لا كالأثمان، بل هو أنفس الخيرات التي سخّرها لنا بارئ الكون».
من أدقّ ما يلحظه مؤلف «مجتمع العمل» أن ثقافة «الوقت الميت» هي ما يعمّ وجودنا، ويُتّبع في مرافق حياتنا كافة، وما شيء أضرّ من «الأوقات الراكدة والساعات الجامدة» في تعطيل الإنتاج، وزلزلة حيوية الحياة، ووأد بهجتها، وتعطيل مسرّة النفوس، ودفعها إلى الكآبة والتخلف المزري، والسلبية العظيمة المحوطة بإحباط أعظم!