الجواهريّ يحاجج الكرملي في لغة شعره برسالة عمرها 94 عاماً

ثقافة 2020/07/26
...

حسين محمد عجيل
 
قبل 121 عاماً، شهد مثل هذا اليوم من شهر تموز 1899، ولادة محمد مهدي الجواهري، الذي قدر له أن يكون استثنائيّاً في شؤونه كلها، شاعريةً ومكانةً ومواقفَ، وإنتاجاً ومزاجاً وذاكرةً، وعمراً إبداعيّاً أيضاً، إذ أزهرت سنواته وعقوده المديدة المنتجة حتى غطت جل القرن العشرين، قضاها كلها مالئاً الدنيا وشاغلا الناس، كملهمه الكوفيّ أبي الطيّب المتنبيّ، حتى رحل يوم 27 تموز 1997، الذي يصادف غداً الاثنين ذكرى رحيله الثالثة والعشرين، لتقترن الولادة بالوفاة على نحو استثنائيّ أيضاً، لا يحدث إلا نادراً في تواريخ الأشخاص، وليظل هذا الشاعر الأشهر يثير الجدل حتى بعد رحيله ورقوده الأبدي في مقبرة للغرباء بدمشق «بعيداً عن دجلة الخير».
نبوءة الكرملي سنة 1929
وفي هاتين المناسبتين السنويّتين، رأيتُ أن استذكر الجواهريّ من زاوية جديدة غير مطروقة، هي صلة المودّة العميقة، فضلاً عن الصلات الأدبيّة والثقافيّة، التي ربطته بالأب أنستاس ماري الكرملي (1866 - 1947)، مقدّماً للقرّاء رسالةً نادرةً بخطّ الجواهريّ، عمرها 94 عاما ولم يسبق نشرها من قبل، توثّق هذا التواصل الروحيّ والثقافيّ بينهما، فقد كان هذا العالم اللغويّ والمثقّف التنويريّ الرائد، وأحد أبرز أعلام نهضة البلاد منذ مطلع القرن العشرين، من الرعاة الأوائل للجواهريّ، ورأى فيه ببصيرته النقديّة النافذة ما سيكونه، وبشّر بشاعريّته الفذّة، وتوقّع له في منتصف سنة 1929، أن يبزّ كلّ شعراء عصره، حين قال عن ديوان «بين الشعور والعاطفة»، الذي أهدى الجواهريّ نسخةً منه إليه يوم 18 نيسان من العام نفسه، في تقريظٍ نشره بالجزء السادس من المجلّد السابع من مجلّته الشهيرة (لغة العرب) الصادر في حزيران ذلك العام: «.. حتّى أنّك لا تقف على قصيدة من قصائده إلّا كأنّك تشعر بما يختلج في نفسه من العوامل والمؤثّرات، ولا يستبعد القارئُ لو قلنا: «إنّ مهديّنا يكون الهادي إلى أسمى الأفكار وأبدع المعاني بعد قليل من السنين، حتّى يبرز على جمّ غفير ممّن يدّعون الشعر وهم أبعد عنه، بُعد الثريّا عن الثرى». وهي نبوءة تحقّقت فعلاً في بضع سنين، حين أصبح الجواهريّ شاعر العراق الأبرز الذي تشخص إليه الأنظار في العالم العربيّ كلّه.
 
اهتمام سجّلته مجلّة 
(لغة العرب)
لم تكن شخصيّة بمكانة الكرملي العلميّة، لتجازف بمثل هذه البشارة من دون أن تنبني أحكامه على ما يدعمها، فقبلها بسنتين كان قد صدّر الجزء الثامن من المجلد الرابع من مجلّته (لغة العرب) الصادر في الأوّل من شباط 1927، ص: 439-440 بقصيدة للجواهريّ بعنوان “الشاعر»، ونوّه في العدد التالي- وهو الجزء التاسع من المجلد الرابع الأوّل من آذار 1927: ص 560- بمقالة للجواهريّ، مطلقاً عليه لقب الشيخ، منشورة في مجلّة (الحيرة) الأدبيّة، قائلاً في تقريظها: «هذه مجلّة صغيرة الحجم إلاَّ أنّها تبشّرنا بمستقبل زاهر ونجاح باهر؛ لأنّ كتّابها وشعراءها وناشري برودها من النجف دار العلم والعرفان، وبين محتويات الجزء الأوّل نهضة الأدب النجفيّ للشيخ محمّد مهدي الجواهري..»، ونشر الكرملي في العدد الذي يليه- وهو الجزء العاشر من المجلد الرابع، الصادر في الأوّل من نيسان 1927: ص 570-571، قصيدةَ الجواهري «نزوات اللسان» وجاءت الثانية في ترتيب موادّ العدد، ومعروف أنّ تسلسل الموادّ يخضع لأهميّتها، في السابق كما هو اليوم.
ولم يتوقّف اهتمام الكرملي على الجانب الشعريّ من انشغالات الجواهريّ، بل تعدّاه إلى اشتغاله بالصحافة، فحين أصدر الجواهريّ ببغداد العدد الأوّل من جريدته الأولى (الفرات)، كتب الكرمليّ في الجزء السادس من المجلّد الثامن من مجلّته (لغة العرب)، الصادر في حزيران 1930 ص 464، تعريفاً بالمجلة، قال فيه: «جريدة يوميّة سياسيّة عامّة لصاحبها ورئيس تحريرها محمّد مهدي الجواهريّ.. ظهر العدد الأوّل منها نهار الأربعاء 7 مايس من هذه السنة.. ولمّا منشئها من أبناء العراق الغُيُر، أملنا فيه أن يعالج مُعسرات الأمور على أحسن وأقوم طريق وأسدّ أسلوب».
 
رسالة الجواهريّ 
ورسالة الكرملي 
عُرف عن الكرملي بأنّه من أكثر الكتّاب العراقيّين ولعاً بالمراسلات الثقافيّة مع مجايليه من الأدباء والكتّاب العراقيّين والعرب والمستشرقين، لكثرة نشاطاته الثقافيّة وتنوّعها، واتساع دائرة علاقاته وأسفاره، وتعدّد اللغات التي كان يتقنها، ومن حسن الحظّ أنّه كلّف تلميذيه الباحثين كوركيس عوّاد وميخائيل عوّاد تنظيم آلاف الرسائل التي وردته، وحين أكملا المهمّة على أفضل وجه أهداهما كلّ ملفّات الرسائل الثمينة، وبذلك حفظ الأخوان هذا الكنز من التلف والضياع، وكان من بين محفوظاته رسالة الجواهريّ النادرة، هذه التي ننشرها للمرّة الأولى اليوم، وهي مدوّنة بخط الجواهريّ ومؤلّفة من أربع صفحات، ويتضح للقارى أنّها رسالة جوابيّة ردّ فيها الجواهريّ على رسالة كانت وردته من الكرملي (عسى أن تكون ما زالت محفوظة في أرشيف الشاعر)، وهي تنقسم موضوعيّاً على محورين، الأوّل نقاش لغويّ ردّ فيه الجواهري على ملاحظات نقديّة يغلب عليها الطابع اللغويّ سجّلها الكرملي على قصيدتيه «الشاعر»، و«نزوات اللسان» اللتين كان قد بعث بهما للنشر في (لغة العرب)، وقد تقدّمت الإشارة إليهما، والمحور الثاني يتضمّن عرضاً لمحتويات مخطوطة للكتاب المقدّس محفوظة بالنجف، طلب الجواهريّ من الكرملي بيان مدى نفاستها وقيمتها. 
بحثاً عن تاريخ الرسالة. 
ويُلاحظ أن الرسالة مؤرّخة بالتاريخ الميلاديّ والهجريّ، ولكن من دون ذكر السنة، على النحو الآتي: «النجف في 24 كانون1 الموافق 20 جُمادى2»، ومن خلال ربط فحوى الرسالة مع قصيدتي الجواهري المنشورتين في (لغة العرب)، وبالرجوع إلى الكتب المعنيّة بتحويل التواريخ الهجريّة إلى ميلاديّة، وبالعكس، تبيّن لي أنّ تاريخ رسالة الجواهريّ يعود إلى سنة 1926 حصراً، إذ يكاد التاريخان باليوم والشهر بالميلاديّ والهجريّ يتطابقان في تلك السنة تحديداً مع فارق يومين، وهو فارق بسيط، يحدث بسبب الاختلاف في رؤيّة أهلّة كلّ شهر قمريّ بالعين المجرّدة، علاوة على ذلك تبيّن لي أن تسلسل الأحداث جاء كالآتي: بعث الجواهريّ بقصيدتين من النجف للنشر في مجلة (لغة العرب) قبل نهاية سنة 1926 بحدود شهرين، فسجّل الكرمليّ عليهما ملاحظات لغويّة وعروضيّة، وكتب رسالة إلى الشاعر بفحوى ملاحظاته في مطلع شهر كانون الأوّل 1926 على الأرجح، فردّ عليه الجواهريّ بهذه الرسالة يوم 24 كانون الأوّل 1926، مدافعاً عن لغة قصيدتيه، ومنسجماً مع بعض الملاحظات، فدفع الكرمليّ بالقصيدتين للنشر تباعاً في عددي شباط ونيسان 1927 من المجلّة كما سبق التوثيق، ولكنّه آثر أن يضع ملاحظاته نفسها التي ردّ عليها الجواهريّ في هوامش على القصيدتين.
 
وثيقة نثريّة مبكّرة
فضلا عن القيمة الذاتيّة لهذه الرسالة- كأنموذج لأدب الرسائل في الثلث الأوّل من القرن العشرين، إبان مدّة إقامة الجواهريّ في النجف وقبل انتقالته إلى بغداد، وهي انتقالة ذات تأثير كبير في حياته، وما يمكن أن يستخلصه الباحثون منها بحسب اختصاصاتهم، فهي تعدّ من الوثائق النثريّة المبكّرة في حياة الجواهريّ، التي يعرض فيها طريقته في نظم الشعر وتجاوز عقبات اللغة وأسلوبه في محاججة كبار اللغويّين، كما تبيّن خصائصه الأسلوبيّة ناثراً، كما تظهر بعض العثرات اللغويّة بخطّه الشخصيّ الذي لا مجال للدفاع عنه إلّا بالقول إنّه جاء عن خطأ في الكتابة، «شطحة من القلم» على حدّ وصفه، ومثال ذلك في الرسالة قوله: «وأزيد عليه مأخذاً آخراً من حيث المعنى»، فصرف (آخَر) الممنوع من الصرف. 
 
صراع بين اللغويّ والمبدع
كما تقدّم الرسالة أنموذجاً ممتازاً على الاختلاف الكبير في التعاطي مع اللغة بين اللغويّ والمبدع، فالأوّل متزمّت في حرصه على سلامة الإحالة المعجميّة في لغة الشاعر والكاتب، وعدم تجاوزها بأيّ حال، فيما يعمد الثاني إلى تثبيت حقّه في اجتراح دلالات جديدة على الألفاظ، واجتراح صيغ جموع مستحدثة على غير القياس المعتاد، مستفيداً ممّا ورد في كتب اللغويّين من آلاف المفردات جاءت صيغ جمعها بحسب السماع أو التواتر في كلام الفصحاء وإن خالفت القياس، معترضاً على اللغويّ اعتقاده بتحجّر الدلالات المعجميّة، في وقت يرى أن اللغة كائن حيّ تتطوّر خلاياه كلّ يوم، ويرى أن تحوّل دلالات الكلمات وتطوّر معانيها ومبانيها، أمر محتّم تفرضه قوانين الحياة، وهو وسيلة ضروريّة لاستمراريّة اللغة وحيويّتها، وأنّه يكفي أن يوظّف أديب أو شاعر متمكّن من لغته، لفظةً ما في استخدام معيّن مبتدع، ليضمّها اللغويّ في ضمن كلمات المعجم، وهذا الاختلاف في زوايا النظر بين الطرفين، واضح في الرسالة، ويكاد الجواهريّ أن يصرّح به، ولكنّه قصر الأمر على «الدواوين والقواميس المعتبرة»، من دون أن يعطي لنفسه، بوصفه مبدعاً متضلّعا من لغته، وسليل أسرة عريقة في العلم والأدب والشعر، مثل هذا الحقّ، لكنّ الجواهريّ المنتمي للبيئة النجفيّة المحافظة، يبقى مع تجديده ضمن عمود الشعر، شاعراً تقليديّاً، وتفرض عليه سلطة المعجم سطوةً يصعب عليه الفكاك من تبعاتها في ذلك العمر المبكّر. فهو يقول محاججاً الكرملي: «أمّا (الميول) و(النوايا) فلم أيأس من العثور على ما يجوّز استعمال الأولى لحدّ الآن، ولا أتنزّل إلى ما يأمر به الأبُ إلّا بعد القُنوط من وجودها في الدواوين والقواميس المعتبرة، ولذا فلتؤجَّل إلى مراجعة أخرى نضُمّ إلى بيان النتيجة عنها شواهدَ الشعراء الكبار المقبولين من حيث المأخذ العَرُوضيّ، وأمّا الثانية: فمع موافقة الأستاذ على أنّ المعروف من جمعها هو (النيّات)، فلتكن بالتأويل الذي أراده لها حضرة الأستاذ». 
 
مخطوطة للكتاب المقدّس 
في النجف
في محور الرسالة الثاني، يقدّم الجواهريّ بحديثه المسهب عن النسخة المخطوطة من الكتاب المقدّس المحفوظة في المدينة وتضمّ الأناجيل الأربعة، دليلاً ساطعاً على انفتاح جيله والأجيال السابقة في النجف على دراسة الأديان، والبحث الحرّ في الكتب المقدّسة، وتداولها في سوق تلك المدينة ذات الطابع الدينيّ المحافظ، كما يدلّ على ما تضمّه مدينته العريقة من تراث زاخر، محتجن 
في عشرات الآلاف من المخطوطات، وما زالت مكتباتها الكبرى تحتفظ بنسخ مخطوطة من التوراة 
والإنجيل، كما يقول الشيخ محمّد الكرباسي. 
وختام الرسالة قد يوحي بدهاء الجواهريّ التجاريّ، في محاولته استدراج الأب الكرملي لشراء تلك المخطوطة بسعر غالٍ من دون أن يعرض الأمر عليه مباشرة، ذلك أنّ الرسائل الشخصيّة بعفويّتها، وحرارتها، ووظيفتها الآنيّة، وابتعادها عن الاصطناع غالباً، واعتقاد كاتبها في أوان تدوينها أنّ حياتها تنتهي بانتهاء مهمّتها اللحظيّة، ولن تتحوّل إلى وثيقة، تعد كاشفة عن سمات كاتبها الشخصيّة، وتظهره في أكثر الأحيان من دون تزويق، ولذلك فهي تضيف لسيرة الكاتب ملامح وعناصر مثيرة يهملها التاريخ عادةً، ويمكن من خلالها توظيف هذه العناصر والملامح إعادة كتابة سيرة الأديب والشاعر على نحو أكثر موضوعيّةً وصدقاً.