عن مسخ الذاكرة الوطنيَّة

آراء 2020/07/26
...


عبدالأمير المجر 
 
أتذكر، مرة سألت صديقا عن جدوى ودوافع أن يُعيّر الإنسان إنسانا آخر.. وجاء السؤال في سياق حوار عن أسرار النفس البشرية ومدفوناتها الجميلة والقبيحة معا.. أجابني الصديق في حينه؛ (لكي يضع المقابل في وزنه الحقيقي)! بصراحة لم أجد هذه الاجابة شافية، لأن دوافع هذا السلوك، حسب وجهة نظري، هي أن الذي يعيّر خصمه، يريد أن يعطيه الصورة التي يرسمها له في لحظة انفعاله وغضبه منه، وحتى لو وجدت في إجابة الصديق شيئا من الصحة، يبقى المؤكد أنه ليس وزنه الحقيقي، بل الذي يقدره هو له ... أتذكر ذلك الحوار الذي مرّ عليه أكثر من ثلاثة عقود، لكنه بات يحضرني بقوة مؤخرا، وأنا أرى بعض العراقيين، يعيّرون شعبهم وبطريقة قاسية، عندما يتحدثون عن تاريخ بلادهم، إذ يأتي بطريقة شتم وتسفيه أغلب المحطات والأحداث الكبيرة التي مرت بها، فمن يتابع آراء هذا البعض، لاسيما بعد أن أصبحت خدمة الفيسبوك متاحة للجميع، وبات كل إنسان يعبر عما يجول في ذهنه من دون عوائق، سيجد أن هناك مازوخية حقيقية تمارس علنا، ويجب أن يتصدى لها علم الاجتماع الذي ينبغي ان يكون دوره فاعلا الآن، بسبب هول الأحداث التي مرت بالعراق وانعكاسها على مزاج الناس واسقاطاتهم النفسية.فمثلا، هناك من يسفّه (ثورة العشرين) ويشتمها بطريقة قاسية، بعد أن يخرج بعض التفاصيل التي رافقتها من سياقها التاريخي ويسقط عليها ثقافة الحاضر، وهذا بلا أدنى شك، يعد تعسفا، لأن إنسان تلك المرحلة، في العراق وكل العالم، ليس كما هو الآن، ثقافة ووعيا، وان اوربا نفسها، بما تقف عليه من ركام ثقافي كبير، وقتذاك، جرّت عليها سياسة حكامها ونخبها المتنفذة الويلات التي تنظر اليها الآن بعين مختلفة، لكنها عين نقدية تهدف الى الإفادة من تجارب الماضي لتضيء بها المستقبل، وهكذا يتجسد جدل الحياة المستمر ... لم يتوقف هؤلاء عند (ثورة العشرين) بل يشمل أيضا (حركة مايس) العام 1941 ومن ثم (14 تموز) والجيش العراقي والقوى السياسية المختلفة، واحداث أخرى تمر ذكراها، وياليت الأمر يأتي بصيغة النقد البنّاء الذي يجلي بعض الحقائق عن تلك الأحداث ويتوقف عند الأخطاء التي حصلت فيها، بقصد أن تكون دروسا، حتى اذا كانت قاسية، وإنما فقط للشتم والتسفيه الذي تستدعيه نزعة استعراضية، لاتخلو من سذاجة وتنطع!  من يقرأ تاريخ الدول، المتقدمة والمتخلفة معا، وما قامت به جيوشها والصراع الدموي بين نخبها وقواها السياسية، وطبيعة الأحداث التي مرت بها، يجد أن العراق كان يعيش في وضع أفضل بكثير، باستثناء العقود الأخيرة، لكن تلك الدول تستخلص من الأحداث ما تراه مفيدا ومشرقا للتأكيد عليه والتوقف عنده، بقصد بث الروح الوطنية في نفوس شعوبها، وتثبّت ذلك في كتب التاريخ لديها.. الثورة الفرنسية ومارافقها من أهوال مخزية، مثالا ..  ولديّ من الشواهد المعاصرة الأخرى ماتضيق به هذه المساحة، ومرد هذا الاحتفاء، هو أن الشعوب التي بلا ذاكرة وطنية تضعف لديها الروح الوطنية. وهذا ديدن البشرية منذ القدم. 
إذ كانت القبائل في كل العالم، تصنع لها أساطير وترويها للأجيال من أبنائها، وتتحدث عن مناقبها ورجالاتها الحقيقيين والوهميين! لتجعل ابن القبيلة يعتز بقبيلته، وظل هذا الأمر مستمرا الى اليوم، إذ تقيم الدول الحديثة النصب والتماثيل لوقائعها ورموزها وتحتفل بأحداث حصلت في أزمنة غابرة، وتنفق عليها الأموال، لكي تذكّر الأجيال بتاريخها وتديم جذوة حب الوطن في نفوس مواطنيها. 
كون الناس ليسوا كلهم بمستوى ثقافي راقٍ، فالنخب المثقفة والمتمثلة لفكرة وحدة الانسانية التي لاتحتاج لهذه (الارشادات)، تمثل الأقلية في كل الشعوب، وان الأغلبية هم من تتوجه اليهم تلك النخب في خطابها الفني والأدبي والثقافي لترتقي بهم، مثلما تتوجه إليهم مؤسسات الدولة بخطاب إنساني مفترض وبمسحة محلية تستحضر التاريخ الوطني وتستثمره لشحذ الروح الوطنية وإشباع غريزة الفخر التي تولد مع الإنسان، ولعل هذه الأخيرة تطورت كمفهوم وممارسة، وباتت تستفرغ في الممارسات الجمالية، كالرياضة والفن والعلوم والثقافة وحتى السياسة، بوصفها ميدانا، بات دوليا، يستدعي أبناء الدول كافة لقيادة المحافل العالمية الكبرى. متى تأتي مناسبة عراقية، نجد أنفسنا نتحاور بشأنها لنستخلص الجيد منها وننبذ السيء بحوار موضوعي، يهدف الى الإفادة من تجاربنا بدلا من تعيير شعبنا وشتم تاريخه، وكأننا نعمل على مسخ الذاكرة الوطنية بشكل مبرمج ... 
متى؟!