المثقف والقبيلة

آراء 2020/07/26
...


 علي سعدون
 
كل من قرأ كتاب جوليان باندا "خيانة المثقفين" سيتذكر وهو يقرأ هذا المقال، أن ثمة خيانات كبرى في تاريخ المعرفة، لا خيانة واحدة. ليس لأن الأمر يأتي من باب الالتباس، وليس لأن موجهات تلك المعرفة التي تقود الى الثقافة خياراً مُرّاً، إنما لأن الخيانة الثقافية أو المعرفية ستتمثل بالنزعة الانفصامية بين انكشاف زيف المعارف عندما تقف – ولو قليلا – أمام نزعة العصبية القبائلية التي تجاوزت الأطروحة الإلهية في التعارف والتمايز، الى فسحة الخيال الذي يوحي بتعالي نسب على نسب أخرى. وهو مخيال يقترب من الشوفينية التي يدينها المثقف ليلاً ونهاراً في استعراضه الدائم لمعرفته وكلائش ثقافته المنغلقة وهي تدعي الانفتاح على الآخر مثلما تدعي أن الإنسانية مفهوم مقدس في بنية السلام والعدالة الاجتماعية.
تنفصم شخصية المثقف وبياناته في المعرفة والتنظير على الدوام، فهو الرجل المهووس بانتمائه العرقي المتفوق دائما، وهو نفسه المنزوع الى تمثلات المعرفة والثقافة التي لا تعترف بحدود هذه التمثلات وتعبرها الى الكوني والإنساني.. ومن ثم فنحن أمام شخصيتين تتصارعان في جسد واحد وفكرة واحدة، لكنهما – اي الجسد والفكرة – ستوحيان بالفشل الذريع في النظرة الى الكون والطبيعة والمجتمعات. وهي ذروة النفاق الاجتماعي الذي يشيعه المثقف بمناسبة ومن دون مناسبة وهو يستسلم بطريقة مروعة الى قاع تلك النزعة ونتائجها الكارثية على أهمية الثقافة في ترويض النزعة العصبية وتفسير أهمية أن يكون المرء إنسانا بالدرجة الاولى، وان الصفات التي نسبغها عليه ما هي إلا اضافات شكلية تأتي على وفق ضرورات ما ينجزه في الحياة من جهد وعطاء. 
إن وجود معنى "القبيلة" بوصفها حصنا على سبيل المثال، سيسخر من معنى ووجود المواطنة والدولة، ومن ثم سيهدم الطريقة الحديثة في تكوين المجتمعات التي تدعمها الثقافة ويفككها النفاق الشوفيني، وفي كليهما تلعب الثقافة دورا في تذويب تلك التصنيفات لصالح الإنسان وحده، سواء كان أقلية او كان متسعا وواسعا ومساهما في صناعة "الأمة" بمفهومها القار والراسخ الذي لا يعترف بنزعة التقسيم العرقي او الديني او الطائفي. الثقافة على وفق هذا النسق ستعبر الى آفاق الإنسان وروحه المتطلعة الى الحرية والانعتاق من التبعية.
لا علاقة لهذا المقال بـ "خيانة المثقفين" لجوليان باندا سوى بالتناص بمفهوم الخيانة، وسنعارضه عندما يصر على أن المثقف هو أثمن ما تمتلكه الأمم، في نظرة تهويلية تبرّئ المثقف من خياناته ومن دوره الكبير في أن يكون محرضاً على العنف والجريمة وسوء استخدام المعرفة، حتى وإن أدان المثقف في خيانات بيع الموقف، مثلما يبرر له شرط نجاحه الثقافي والمعرفي عندما ينشأ في بيئة حرة ونقية لا تعاني من ارهاصات الجدل الهوياتي والديني والطائفي. ما يهمنا في هذا المقال، هو التركيز على أن خيانة المثقف بتقديري الشخصي تبدأ من موقفه حيال الوضع العنصري والعرقي الذي يختبر نفسه فيه على أساس معايير العدالة والإنسانية، ويناقش بمنطق المعرفة والثقافة الحرة نزعاته الروحية والعقلية بذلك المختبر الذي ينبغي له أن يكون منصفا وعادلا ويحقق النتائج النافعة لا التي تدفع به الى مزيد من العصبية المتحجرة التي تتستر وراء استعراض النظريات الشاسعة التي يغيب من ورائها أفق المعرفة الإنسانية العظيمة.