طواحين اللغة

ثقافة 2020/07/27
...

أسعد الجبوري
 

دون كيشوت: كنتُ أظنُ أن للغة باباً واحداً، يدخلُ المرءُ منه ويخرج.
سانشو: وما أتضح لك بعد ذلك. هل ابتلعت الرمالُ ظنونك يا سيدي الدون؟
دون كيشوت: أجل. فما أن دخلت إلى هنالك، حتى رأيتُ في اللغة الأبواب والساحات والأضرحة والغابات والطواحين التي تدير أذرعها النساء الفاتنات والجوارح والمياه .
سانشو: كأنك تتحدث عن مدن وفلَوات وميادين قتال يا سيدي الدون. ولكنني مستعجبٌ من وجود مياه في اللغة!!
دون كيشوت: المياهُ يا سانشو تقرأ وتكتب. ألا تدرك معنى ذلك؟
سانشو: لم أذهب إلى مدرسة يوماً، وكأنني مُتحصّنٌ بالأميّة وبمعارك طواحين ما زلتَ تقوم بـتأليفها حسب أهواء المخ الذي ما برحَ مستقراً تحت جمجمتك التي يكاد يأكلها حديدُ الخوذة العسكرية .
دون كيشوت: لا تتواقح يا سانشو. فلولا تلك الطواحين، ما كان لماكينات الآداب والفنون أن تتحرك بقوة. ولا أن تتصارع الطاقات اللغوية لإنتاج النصوص العظيمة. فمثلما يحتاج الزرعُ سقياً، لا تنمو الكلمات على الورق من دون أن تكون خصبةً.
سانشو: ولكنني لم أرَ في حياتي شلالاتٍ تنزلُ من كتاب. فأين تكون المياه؟
دون كيشوت: ربما تكون نائمةً في التخت، نومة اللعنة التي تحشُو رأسك السكراب بالجراد يا سانشو. 
سانشو: شكراً سيدي على الاطراء. وما دمت قد أتيت على ذكر هذه الفصيلة من الحشرات، لِمَ يتساوى الذكر والأنثى باسم الجرادة؟  
دون كيشوت: ربما لأن الذكر، ومن كثرة حش الحقول ومسح الزرع، يصبح شبه حامل أو حبلى، فلا تفرق ما بينه وما بين حبيبته الأنثى الجرادة .
سانشو: وكيف يتزاوجون؟
دون كيشوت: تقرضُ الجَرادةُ الجَرادةَ أثناء النكاح، ثم تأتيهم ريحٌ من الأعالي، ويندَفْنا تحت اللحاف للأبد .
سانشو: يعني دونما قراءة الفاتحة يا سيدي الدون؟
دون كيشوت: لا أعرف. عليك أن تسأل شيخاً ليطرز لك الخبر اليقين .
سانشو: ومتى أصبحت الأخبار تطرزُ تطريزاً ؟
دون كيشوت: عند مشايخ الشاشات فقط. فقد جعل هؤلاء التلفزيونات جوامع للصلاة الإعلانية والصوم الضوئي وجمع الخمس والزكاة من الجيوب، علاوةً على التكفير والتبشير ونشر السم والسعير وفضلات الرمل والظلام. 
سانشو: ولِمَ لم تفكر بفتح قناة فضائية يا سيدي الدون؟ 
دون كيشوت: إنها ليست بالفكرة الطيبة. 
سانشو: لماذا تعتقد ذلك؟
دون كيشوت: وكيف تريدني أن أحلقَ بالفضاء والأرض على ظهري؟ 
سانشو: يمكنك أن ترمي الأرض وتنقذنا من المتاعب، فتعلن الانفكاك عن ترابها الأحمر المرّ والمرير.
دون كيشوت: ولمنْ سنتركها. لثعابين الداخل أم لنمور الخارج؟
سانشو: كأنك مازلتَ محكوماً بالأحلام الكبرى. أي بتنظيف الأرض من الجرار والفئران وتماسيح المال ومصاصي الدماء من القتلة السريّين؟
دون كيشوت: أما واللهِ يا سانشو فأنت لا تصلح إلا مسؤولاً بمرتبة (شريف) في أي فيلم من أفلام الكاوبوي. 
سانشو: ولكنني لا أملك سوى بغلة، وليس عندي قطار يحمل ذهباً ليسيلَ له لُعاب قطاع الطرق.
دون كيشوت: لا تخف ولا تستعجل الأمر يا سانشو. فأنا سأعيركَ حصاني وأشتري لك قطاراً من السوق. 
سانشو: يا لحظي العاثر معك يا سيدي الدون. أنت تحاول جعلي أضحوكةً على الدوام.  !!
دون كيشوت: لا تقلْ ذلك يا سانشو. فهدفي كان يتعلق بتذليل الصعوبات التي تمنعك من تحقيق رغباتك ليس إلا.
سانشو: لا أريد ذلك. فمنذ زمن بعيد، وماكينة أحلامي 
مكسورة .
دون كيشوت: سنقوم بتصليحها يا سانشو، فلا تحزن.
سانشو: لا تتعب حالك، فحتى أحلام (اللنكات) ماتت مختنقةً بجيب سروالي في هذا الزمن العربي الشبحي الأسود.