أنوثة مكتوبة بالخصب والألم

ثقافة 2020/07/30
...

عادل الصويري
 
 
تواصل الشاعرة ابتهال بليبل ابتعادها عن الجدل المتواصل بشأن الأنثى المبدعة عبر النأي المنتج، والصمت المبدع، مكرسةً جهدها ووقتها للكتابة المنحازة لكل تفاصيل الأنثى، من دون الالتفات إلى خطوط حمر، أو تابوات قابعة في ذهنية المأزومين.
فبعد تجربتها المثيرة واللافتة في كتاب (جسدُها في الحمام)، والذي اختطت لنفسها فيه مساراً شعرياً سردياً يلمح تارةً ويصرح أخرى؛ تواصلُ في كتابها الجديد (نيكروفيليا بشريط ملون) تدوين الأنوثة وفق ثنائية الخصب الوجودي والألم الذي تفرضه السياقات الاجتماعية، وبلغة فنية اعتمدت تشظية الأحاسيس، ونثرها على مساحة تلك الثنائية وكأنها طفلة صغيرة تتأرجح بين الشاعري والسردي في المنجز التدويني.
تأخذنا الشاعرة في مفتتح كتابها إلى شقّ في بطانةِ حقيبتها، وبذلك هي تتقصد مفتتحاً تخيُّلياً تشركُ قارئها في تفاصيله: “ يحضرني – أحياناً – عند ولوج نفق الكتابة، الشق الذي في بطانة حقيبتي، تلك الحقيبة المجروحة، التي طالما رأيتها تشبهني، مزهوةً بتفاهات الأشياء، كل الأشياء التي تخطر ببالك، ولا تخطر، والأشياء الفالتة، المنعزلة، الأشياء التي تتشكل منها دواخلي”.
في هذا المفتتح يتأكد لنا النأي الذي قلتُه في البداية، من خلال مفردتين تشيران بوضوح إليه: (الفالتة/ المنعزلة) وهي التي تتشكل منها دواخل الشاعرة، التي تريد أن تؤكد لقارئها أنها تنسجم نفسياً مع ما تكتب، غير آبهة بأي جدل افتراضي أو واقعي نتيجة ما يتم اعتباره “انفلاتاً”؛ لأن اعتزال الجدل هو ما سيحقق لها سلامها الداخلي.
وتعود لغوايتها المحببة في إشراك القارئ مع مغامرتها في شرح مفهوم (حياة النساء) التي تصفها بالقاسية والسريالية في مواجهة أنساق مجتمعية تتهمها بأنها دائمة البحث عن رجل، وهي تهمة لها مساحة كبرى من الحضور الواقعي، ترى أن الاعتراف بها “عملية مقلقة وغير مريحة”؛ لذلك تأخذ القارئ معها للتجوال في ذات الشق الذي تفاجئنا الشاعرة بأنه الآخر بسرد شعري في غاية الامتاع: “لنتأمل محاولاتنا في دس شيءٍ ما في حقيبة يد، الحقيبة هي ذاكرة الحدث، وراهنه، لكنَّ هذا الشيء سيميل – بغفلة – نحو شقّ في بطانتها. يريد أن يختفي أو يتوغل في هذا الشق الذي هو داخلك”. 
السرد عند ابتهال بليبل في (نيكروفيليا بشريط ملون) لا يتنازل عن عنصري الدهشة والمفارقة الشعرية منذ عناوين النصوص (شعر إبطيها غابة صغيرة للغنج، الشيفر الجميل، البورنو المسموح، صدمة الجسد الفينوسي، استاطيقا القبح، امرأة وستيان، ثقوب لزجة)، وحتى متون هذه النصوص؛ تقرن الشعرية بأنماط سردية، فالشاعرة تعي أن الكتابة الحديثة لم تعد تقسر السرد على القصة أو الرواية فقط، بل هو جزء من الخطاب اللغوي الذي يمكن ملاحظته في أكثر من جنس كتابي. فالعناصر السردية عند ابتهال بليبل تجعل الشعرية أشبه بخرز متسلسلة في مسبحة لغوية زاخرة بالأحداث والتحولات والحوارات الداخلية، بينما تستثمر الشعريةُ البناءَ السرديَّ والحكائي، فتنتج لنا الشاعرةُ تفاعلاً وتناصاً إجناسياً. ولنأخذ هذا المقطع مثلاً من نص (امرأة وستيان) لتأكيد هذا التفاعل الإجناسي:
)حياتها متعة هوائية/ كجسدٍ عارٍ أيامها متشابهة/ كحلقة فارغة في عقيدة تلغي هويتها/ هل يناسب أن أرتدي الستيان لدحض عيون مكللة بحب وحرب؟ / ربما لم تكن حكمة/ أخبرتني بائعة هوى لا تنام ولا تصحو: “النهود قذرة”/ كل شيء كان قادراً على لمسها في نظرة/ بينما يتأملون أجسادنا الجديدةَ مراراً في سنواتٍ/ وهي تمر بوجوه كئيبة/ هذا ستياني: شيء مثير، يتوقعه وتعكسه المرايا/ أقصد شبقهم ومجونهم/ إنه قذر/ لكنه مقدس كحياتنا فحسب/ كأيامها التي لا تلقي لي بالاً/ كي لا أهتم بشيء غير تغطيتها).
قدمت لنا ابتهال بليبل في كتابها هذا مسارات جديدة للبناء الشعري “الأنثوي” المتجاور مع عصره، منحازاً إليه بشكل كلي، فالكتابة عند الشاعرة ترويض لغوي لانفعالات الذات إبداعياً ونفسياً. كتابةُ تنحاز للأنثى الأخرى، أو الإناث الأخريات لكن برؤية خاصة وشخصية متجردة لها أسلوبها وخصائصُها، خالقة سياقات متجددة. إنَّ المحاكاة في نصوص (نيكروفيليا بشريط ملون) تمزج بين سياق يحاكي الذات، وآخر يحاكي الواقع مجسداً بالأنثى الأخرى، وفي السياقين تتضح رؤية الشاعرة للعالم المحيط بها بعد أن رصدت ألم الأنثى من الداخل والخارج كما في نصها (مثيرة لولا الحزن):
(جسدُها الذي تتمنى ألّا تهمشه وتهمله، قذفته مع الطقوس، رمته مؤقتاً عَلَّها تحظى بشخصية ثانية لها. فساتين تجتذبُ الجمال داخل غرف أو قاعات بأبواب مغلقة، وترسخ الخراب والذاكرة وخطأ ما خارجَها في عوالم مفتوحة).
تقصدت الشاعرة إبقاء العوالم مفتوحة عصية على الانغلاق؛ لتأكيد قصدية الانفلات من كل قيد سواء كان واقعياً اجتماعياً أو كتابياً وشكلانياً، لكنه انفلات غير عشوائي، آخذة بالاعتبار أهمية النسق السردي الذي صار أحد أهم مرتكزات الشعرية الحديثة المتجاورة مع زمنها وتحولاته.