عينُ الشعر تناظرُ طابور الموتى

ثقافة 2020/08/07
...

محمد حاجم  
 
 
 
حين يتسلل الموت زاحفا على كل شيء، مستحوذا على لحظاتنا التي ما عادت تحتسب، مجرِّدا ذاكرتنا من أوقاتها وصورها ولحظاتها، سوى لحظة التسمُّر التي تبدو مستسلمة لقدر فجائعي يبدو من الاستحالة معه التفلسف في وضع تفسير يحاكي المنطق، الأمر إذن يحتاج إلى أدوات كشف لا تتأتى للعين البشرية، نحتاج عينا أخرى تشاهد الأمر من زاوية مغايرة، تختلق عالما آخر يحاول عبور الأنقاض بخطًى متسارعة ليصل إلى ضفة الأجوبة، هذا ما حدث مع الشاعر (أحمد ساجت) وهو يُعاين مشهد اصطفاف العشرات من أجل ما يبدو أنه أسهل شيء في الحياة (جرعة من الهواء النقي)، الذي بدا في تلك اللحظة أندر ما في الوجود، لذلك يجترح في قصيدته هذه دخولا يؤجل عن تلك الرئات زمن نفاد صبرها، إذ يقول:
لمَ لا نبتكرُ هواءً
للذين يرقدون الآن إلى جانب الموت؟! 
كأن نختار طُرقاً أقل شدة من اختناق، 
أنْ نمرر الذكريات القديمة مثلاً 
أو نرسم في مدى تلك العيون المفارقة وردة أو أبجدية. 
لماذا نقف طوابير من أجل أن نتنفس ولا نحاول أنْ ننسى كآبة المدينة!
تتشكل ألوان الحلول التي يجترحها الشاعر بمجموعة من المعادلات التي تحفر طرقا مغايرة لسبيل الموت أحادي الاتجاه، تلك الوجوه التي تقابل السماء وهي ممدّدة على أسرة الموت لا بد من رفع السقف من أمامها، وبثِّ الروح فيها، عن طريق تمرير الذاكرة الملونة فيهم، بدل اللون الرمادي الذي يلف حاضرهم، هي لحظة الهروب نحو الماضي بما فيه من ابتسامات كافية تردُّ عن الجميع فزع الحاضر ومأساته، يستدرك الشاعر مقدِّرا صعوبة موقفنا هذا باجتراحه حلًّا آخر ينقلنا معه نحو ردهات الحالات المستعصية التي تحتاج منا أن ننفث إلى جانبها عطرا يبعدها ولو لدقائق عن (رائحة التعقيم) التي تحاصرهم، أو تحاول أن تستدرك أسماعهم بحكايات يألفونها بدل دقات (أجهزة الإنعاش)، يا له من صراع مرير يضعنا فيه الشاعر بين قوتين، بين (حاكمية الموت التي تسحب نحو الأعلى وأسطورية البقاء التي تتمسك بالحياة)، بعدها لا يتخلى الشاعر عن ممارسة هوايته الأزلية بطرح الأسئلة التي تزلزل ثوابتنا الانهزامية نحو الموت: ((لماذا نقف طوابير من أجل أن نتنفس ولا نحاول أن ننسى كآبة المدينة!))، ولعلَّه كان مطالبا بالإجابة في المقطع الثاني من قصيدته، إذ يتحدَّث قائلا:
يسألني أحدهم:
- ما الذي تكتبه 
وقد أينعت صفات الرحيل؟
فيحدث أنْ تستيقظ بي حيرة الأسئلة مجدداً 
وعلى مصهر ريق متيبّس تقف اللغة مفتوحة 
كشفاه الموتى الذين ينتظرون منذ أيّام أوراقاً من أجل الدفن؟! 
من يعرف سُلّماً إلى النهايات؟
أو قبواً تتكاثف على جدرانه أجوبتنا اللزجة؟
أرواح تتمايل في ليل المدينة 
وأشكال تمتزج مع رذاذ القادمين من المشافي.. 
الملامح شاحبة والسكون. 
يبدو الشحوب ملازما لكل شيء في الوقت الذي تفقد فيه الألوان رونقها، ما الذي سنفعله ونحن بلا دفاع يؤمن لنا الإجابة عن كم الأسئلة الذي سيأتي فيما بعد، حينها ((قد أينعت صفات الرحيل))، ويا لها من استعارة تلخص الحديث، وتعيدنا لمتاهة اللعبة الأزلية بين (الموت والحياة)، الموت الذي طوَّر من إمكاناته ليشمل الجميع في قافلة لا نهائية من المسافرين، أي إشارات يحاول بلوغها الشاعر وهو يواجه بهذه الحيرة، أي لغة يستعين بها لترطيب فم ما عاد يميِّز الداخل إلى جوفه من الخارج سوى أن يستنشق أكبر قدر من الهواء، لا يهم أي هواء، المهم أن يبقيه لليلة أخرى على أقل تقدير، كل قواميس اللغة تقف عاجزة عن إيضاح معنى الألم الذي يصارعه الراقدون المتوسلون برحمة الهواء.
تنثال علينا أسئلة القصيدة مثل وخزات موجعة، توجه نحو خاصرة أفكارنا، لحظة التسمُّر التي نقف عندها الآن تحجب عنا رؤية النهايات، أو محاولة إعطاء تفسير عما يحمله المجهول لنا، حصار الأجوبة الذي يلف حياتنا لا يبدو أن له أمدا للنهاية، حين ترقص الأجساد رقصتها الأخيرة قبل الموت نتيجة نفاد الدفاعات، فالمدينة تنفض عن نفسها آخر ما تخبئه من أسلحة الحياة، الموت يحتضنها بسكون تام، سكون بارد وموحش، هادئ مثل ليل المقابر..!!!
السكون 
السكون
يلفُّ الطريق ..
نحن صورة عن العدم 
اليقين الذي يهبط ويرتفع في المهب
وسكرة الأيدي التي تتضرج بالصخب 
ولا تعرف مجراه! 
نحن عدم يتأرجح خارج التوقيت
وحواس تتخثر بلا عدالة ...
كل شيء صامت، فالموت يصنع قدرا آخر، قدرا لا يمكن مواجهته مطلقا إلا بحبس الأنفاس، وعدم التحدث إلا من وراء ستار يحجب الألسن عن الخوض في غمار الأسئلة المتتالية، قدر ساكن يعيد للطرقات وحشتها بعد أن غادرتها الأرجل التي تحتمي بمكعباتها الحجرية في هذا الوقت، يتمثَّل الموت مثل كائن عظيم لكنه لا يرى، يصنع لنفسه أسطورته الخاصة من دون صوت، الفزع من مواجهته يثبت كل شيء، ليعود الجميع إلى سباتهم الذي لا يُعرَفُ إلى أي مدًى يطول.
ونحن نندثر مع الأبواب المغلقة، والأسئلة التي نهرب من مواجهتها، كأننا لم نكن بالأساس، حيرة الوجود الذي نفكر به دائما، ما المغزى من الحياة إن كانت على هذه الشاكلة؟ كيف (تهفت) تلك الأصوات مرة واحدة..! ما المقدار الذي نحتاج من القوة كي نقاوم هذه المرة، وما الحاجة للقوة ونحن مشاريع 
الموت المؤجلة، وأرقامه التي تناساها لبعض الوقت..!