صعوبة الحياة في رواية {تحيا الحياة} لفيصل عبد الحسن

ثقافة 2020/08/09
...

 
ابراهيم سبتي
 
 
تقول الرواية ما لا يستطيع أي جنس ادبي آخر أن يقوله بفضل الفسحة السردية التي تتيح استيعاب الحكاية والثيمة الصعبة المركبة والوثيقة الدامغة والحدث المؤثر. وحين تتحدث عن ذلك الحدث الذي صار ماضيا، فهي تخرجه بسرد إبداعي وبطريقة مقنعة تختلط فيها الدهشة بالخوف والأمل بالبأس. إنها رواية "تحيا الحياة" للقاص والروائي العراقي فيصل عبد الحسن، الذي كتب سيرة أربعة عقود مرت بالعراق كانت مليئة بالدم والاستهانة بالشعب ومقدراته والترويع الذي صار صناعة فائقة البراعة. الثيمة الأساسية هي أن الأحداث مكتوبة في مخطوطة وقد هرّبها الراوي الى الخارج، وفيها يروي كل شيء بالتفصيل المشوق والإبهار السردي الرصين الذي منح الرواية الكثير من التأمل لواقع أسود مر 
بالعباد. 
فكان السرد يندفع محاولا إظهار كل الخفايا والأحداث والوقائع من خلال تداخل الأزمان. فثمة روي يتدفق عبر زمنين: الأول فترة طفولة وفتوة المدعو سيلبا وحكاية ارتكابه ثلاث جرائم قتل في قريته والهروب منها وهو صبي مراهق، ما يلبث أن يتطور السرد في هذا الزمن الى مراحل لاحقة في حياته مثل سرقة الباص الذي يعمل مساعدا لوالد الراوي به. وتتلاحق الأحداث ليصل السارق الى مراتب عليا في الدوائر الأمنية ثم يصبح نائبا للرئيس. 
أما الزمن الثاني، فهو حياة الرئيس بكل تفاصيلها والمحطات التي مرت به ومغامراته العاطفية والسياسية وارهاصاته وكبواته وجبروته. فعندما ترى مشهدا روائيا له وهو يتعرض لمحاولة اغتيال من قبل العم نوري ووالدته (جدة الراوي)، نجد في المشهد اللاحق أحداثا أخرى لزمن آخر تماما وسيلبا يقود الدولة كرئيس مباشر من دون منازع. 
هذا التداخل أعطى شهية مفتوحة لإكمال القراءة ومتابعة الأحداث ومن ثم الشعور بالمتعة الحسية والفكرية وتنشيط الذاكرة لاسترجاع الماضي القريب. إن كمية المعلومات المدوّنة في الرواية قد وظفت بذكاء بالغ وكانت المحرك الاساسي في الرواية/المخطوطة. تبدأ الرواية وتنتهي بخروج الراوي الى عمان وقد ترك خلفه الضيم والقهر والشعور بالخذلان من الوضع القائم الذي يحتاج معجزةً ومخلصاً، وكما اشار الروائي في إهدائه في الصفحات الأولى "الى أمل المحرومين  وفرج المكروبين..." ص3. فتتداخل الأوجاع والهموم، في الحدث المهم في الرواية والذي كان منطلقا لكل 
المجريات. 
فحال الأعمام والجدة القوية الداهية كما يصفها الراوي فضلاً عن الأب المفجوع والجد والأعمام، نوري وحسن وحسين وابن العم عبود وحسن الروائي والابن الأكبر للرئيس، والحورية الجميلة التي هي زوجة الرئيس الثانية ، فضلا عن العميد هيثم وسيلبا نفسه). إنهم من حركوا الأحداث وفق منظور روائي سياسي وتوثيقي. وثمة شخصيات مساندة للحدث الروائي أكملت مهمة السرد وأعطته بعدا فنيا رصينا (رسمية، الحاج خيري، وزير الدفاع، الممثل الذي صار زوج ابنة الرئيس، شقيق الممثل، المدرس المتقاعد).
ثمة محاور عدة أظهرت الهدف الرئيسي الواصل الى قمة الاحداث من خلال السرد المتدرج تاريخيا في حياة الأعمام الذين ظلوا يسرقون المواشي من المعدان وقيام جدة السارد "والدة الاعمام" بالتغطية والتمويه عنهم عند اقتحام الشرطة لبيتهم. بيّن السرد المنساب بلغة هادئة، كل الاحداث التي اتخذها السارد نقطة انطلاق لاحداث الرواية المتتالية. إنها رواية الاحداث التي عصفت بالناس منذ  صعود  سارق الباص الخشبي الى سدة الحكم وصار الحاكم الأوحد للبلاد والعباد تسانده حاشيته البارعة في تنفيذ أوامر القتل وبث الخوف والرهبة في نفوس الناس. تجري الرواية بسرد مرصوف بعناية منح النص دفقة من الامتاع والمواصلة والتشويق. والروائي فيصل عبد الحسن استطاع توظيف خبرته في الكتابة السردية في هذه الرواية اذ توفّرت له عدة عناصر لتحقيق قوة الاقناع والمتابعة أهمها هو تاريخ الكاتب الإبداعي ومهارته في احتساب كل صغيرة وكبيرة في السرد لإظهارها كمكمل للاحداث. لقد منح الروائي للمتلقي، جوا فريدا من اللحظات المشحونة بالترويع الذي كان يعيشه ويحلم بالخلاص منه ولكنه (المتلقي) لم يفكر في قراءة بؤسه يوما بشكل عمل روائي رصين، ويبدو أن سيلبا هو الاسم الذي ظلت القابلة النصرانية تردده عن صليبها الضائع وهي تولّده وتقمّطه وهو ما أعجب الأم فأطلقته على ابنها ص 59 .
وحين يسخر صديقه منه وهو يروي له قصة ولادته فيقوم بقلب الحروف ليصبح "ابليس" مما يجعله ممتعضا "وشعر بذيل الضيق  يتجمع في صدره" ص 68.  يصبح هذا السارق الآثم هو الرجل الأوحد والقائد الضرورة. تنشغل العشيرة بالبحث عن السيارة المسروقة فيتفرق رجالها بين سجون مراكز الشرطة والمستشفيات وعندما يصاب الزاير عاتي بالعمى يستلم ابنه مقاليد المشيخة فيأمر بإنهاء حملة البحث، فيما الأب المفجوع يبحث في بغداد لا يترك وجها او سيارة إلا تمعن 
بحثا. فيعمل في الليل حمالا في الشورجة ليستطيع العيش ومواصلة البحث.  
وبعد العثور على سيلبا  ومقابلته، يأمر بسجن الأب ومن ثم قتله. لأنه يشعر بألم الصفعة "التي لا ينساها أبدا" ص 103. أعتقد أن رواية "تحيا الحياة" هي رواية اللغة المشبعة بهموم وأوجاع الناس والتي ساعدت السرد على المواصلة لتحقيق جمالية غلفت تلك الأوجاع لأنها كتبت بقلم أحد شهود الزمن الذي لا ينسى أبداً.