د.جواد الزيدي
تتصدر تجربة الفنان حيدر فاخر التجارب الشبابية في ضوء نموها الحيوي المتسارع وحركيتها عبر الزمن ضمن استجابات مرحلية على مستوى التوصلات الجمالية. ولذا فإنها لا تقف عند حدود صياغات معينة تتسم بها، بل تنطلق بقوة الفعل الوجداني الداخلي لصانع الخطاب وقلقه الإبداعي المستمد من قلق الخارج طبقا لأسباب ذاتية وموضوعية، بوصفه مجسدا لهذه التمثلات التي تلقي بظلالها على تلك التجربة. اذ كانت البداية من مهيمنات الواقع المعيش وأنظمة البناء الاجتماعي المؤمن بالغيبي والأسطورة وجميع تجليات الميثولوجيا بوصفها رافدا أساسيا للتجربة وحياة مجتمع تؤسس لتاريخه الثقافي والفكري.
هذه الاستجابات التي تركت دهشتها على ذات الفنان المبدعة لينتجها على هيئة تجارب فنية في خطابه البصري الرسموي. إذ بدأ من فهم الأسطورة وتفسيرها والطلاسم التي يدوّنها السحرة لمرضاهم وحاول نقلها على قماش لوحته لتصبح وثيقة تدين الممارسات الاجتماعية التي تبتعد عن منظومتي العقل والعلم من خلال رصده لهلع الأمهات على الأبناء وتصيد تلك اللحظة التي يمكن أن يستند إليها خطابه المرئي.
بيد أن هذه المرحلة لا يمكن نعتها بأسلوبية واحدة لأنها لم تكن على وتيرة متماثلة، إذ حاول الفنان أن يخضعها لمعالجات بمختلف الترديدات التي يؤمن بها العقل البدائي وصولا الى طلاسم كتابية عبارة عن أحاجٍ وحروفٍ تمارس تمثلها الوظيفي الكامن بطرد الشرور في الاعتقاد الشعبي، وبذلك اختلفت عن تفسيرات المتصوفة للحروف المتعالية أو رمزية الحرف وتأويلاته، بل إنها استجابات طلسمية تتخذ من الحرف عنوانا ولا تخضع لتفسيراته العميقة في الوقت نفسه.
وعندما يرسم هذه التوسيمات والطلاسم والأحاجي على قماش اللوحة فالشكل الفني المنتج يتمتع ببعض الاستقلالية تجاه الوظيفة السحرية والنفعية المحضة، استقلالا يفرح الفنان بما لديه من قدرة على الخلق الإبداعي .ولذا فإن لوحة حيدر فاخر أصبحت جزءا من هذا الموروث الشعبي والميثولوجي، ولكن بصيغ جمالية تحاول النفاذ الى داخل الوجدان الجمعي في لحظة زمكانية محددة آمنت بهذا الفعل ورفضتها ذات الفنان المبدعة وانطلقت لتجد معادلا موضوعيا لها في الخطاب البصري الذي يعد وثيقة مهمة من وثائق النتائج الاجتماعية ومعارضة البناء السطحي من أجل بنيات عميقة تدفع هذا الواقع وتدعمه للوصول الى مثابات جديدة قائمة على التغيير النمطي لتلك البنيات الواجب تقويضها حتى وإن كانت تلك اللحظة جزءا من بنية العقل واليقين الفكري او الديني، فتعمدت لوحته برموز حيوانية وخربشات كتابية وحروف متقاطعة ومتصالبة تعبيرا عن تناولات فكر أسطوري متحرر من الميثولوجيا التي تبدأ من حيث يقف المفهوم مع معرفة الفعل الخلاق، لا مع الكائن المعطى، إنها ليست انعكاسا لكائن بل هي تطلع الى خلق، وهي بذلك لا تعبر عن نفسها بالمفاهيم، بل بالرموز.
إنها الفعل الخلاق الذي ندركه من الداخل بالقصد الذي يمنحه الحياة، وهذه المعرفة الجمالية على هذا الصعيد ليس الكلي موضوعا لها، بل الشخصي والمعيش، بمعنى أنها تعطي معنى للخلق وتطلق الفعل الخالق والتعبير عن الذات في أسلوب سلوك شخصي بإعادة تحريك المبادرة التاريخية التي يمثلها هذه المرة العمل الفني أو مجمل الخطاب المرئي المجترح.
بيد أن هذا ليس كل شيء، اذ أنها مرحلة من مراحل تجليات خطابه الفني فقد تأثر في لحظة ما بمدارس التصوير الاسلامي أو في جزء منها، بحيث حاول أن يشتغل على جزء من البنية المهيمنة ويتقصد الحيوان، حاول أن يزاوج بين علامتين (الإنسان والحيوان) وايجاد علاقة ترابطية بينهما ينتجها الفعل التصويري من خلال آلية التضايف في الخصائص أو الأشكال أو الأزمنة أو الأمكنة وغيرها، متخذا من هذا الفعل عنوانا لانتاج مفهوم توسطي جديد على صعيد التقنية أو التغريب الشكلي ينشأ علاقة جديدة بين المفاهيم المختلفة من خلال معطيات كل منها، فضلا عن الاختلاف الجوهري في المعالجات اللونية التي اقتربت من روح الكرافيك الممثلة في اقتصاد اللون وحساسيته المفرطة التي تفارق الأثر القديم. وهنا سادت معالجات مختلفة اتسمت بها هذه المرحلة على مستوى الشكل والموضوع واللون والمقاربات الفكرية والفلسفية التي تتخذ طريقا مغايرا لطريق الأسطورة أو فعل الميثولوجيا في خطابه الجمالي .أما اشتغاله الثالث أو مستقره الأخير وليس النهائي بكل تأكيد، لأن ذاته القلقة لا يمكن أن تؤسس لثباتها الموضعي وتسعى للانتقال الى مثابات جديدة تحتفظ بدلالتها أو مرجعها الفكري. وبهذا يسير الخطاب الجمالي لديه الى قارات بعيدة في جنس الخطاب النوعي وتعدد تأويلاته ومن ثم انشطار المعنى. أشكال هندسية دائرية ومربعة وخرائط مفرغة هي سمات عالمه الجديد موشحة بعتمة اللون المضاء بالبياض في أطرافه أو أنفاقه القصية التي تشير الى تسرّب الضوء منها لإضاءة طرقات العالم. وهذا الاستثمار محاولة جديدة لكي يعبر فيها التشكيل المسالك الوعرة والممرات الضيقة وهي تحاصر ذات الفنان الى عناوين أكثر إثارة وتأثيرا في خارطة الوعي الجديد.