قصيدة لا يبلى الزمان جِدّتها

ثقافة 2020/08/12
...

هدية حسين
 
 
 
عادة يأتي اختيار القصائد والأغاني للأفلام استجابة لما يفرضه سياق الأحداث الدرامية لقصة الفيلم، فتكون كلماتها مكملة لتلك الأحداث، إلا أن قصيدة "جفنه علم الغزل" التي كتبها الشاعر بشارة الخوري ولحنها محمد عبد الوهاب لتكون ضمن أغنياته في فيلم الوردة البيضاء لم تكن كذلك، ويمكن حذفها من دون أن تؤثر على الأحداث، أو كان يمكن وضعها في زمن لاحق لما ظهرت فيه، فما هي حكايتها ولماذا أصر محمد عبد الوهاب على إدخال تلك الأغنية في الفيلم رغم اعتراض المخرج في البداية؟
بالعودة الى فيلم الوردة البيضاء الذي أخرجه محمد كريم في العام 1933، فهو أول فيلم يمثله عبد الوهاب بعد شهرته من خلال الأغاني وتربعه على عرش الغناء، وقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً واستمر عرضه ستة أسابيع وهو رقم قياسي في ذلك الوقت، الى الحد الذي أطلق عنوانه على أحد منتجات النسيج (حرير الوردة البيضاء) وعلى نوع من الكولونيا، وكذلك اختير اسماً لأحد الفنادق، وعده النقاد البداية الصحيحة للفيلم الغنائي المصري على الرغم من أن فيلم (أنشودة الفؤاد) قد سبقه، وقصة فيلم الوردة البيضاء تدور حول شاب بسيط يدعى جلال (محمد عبد الوهاب) أحب ابنة رجل ثري تدعى رجاء (سميرة خلوصي) لكن زوجة أبيها فاطمة هانم التي تمثل دورها دولت أبيض، تريد تزويجها من أخيها شفيق الذي يجسد دوره زكي رستم، طمعاً بالثروة التي ستؤول إليها، ومن هنا تبدأ مؤامرات زوجة الأب وأخيها لوضع العقبات في طريق الحبيبين..
ما يهمنا في هذه المقالة ليس قصة الفيلم وإنما قصيدة "جفنه علم الغزل"، فقد صوّر عبد الوهاب جميع مشاهده ولم يبق الا تسجيل الأغاني الذي تم في استوديوهات فنية بألمانيا، ولم تكن وقتها القصيدة من ضمن الأغاني إلا أنها وصلت لمحمد عبد الوهاب برسالة من بشارة الخوري، فوضع محمد عبد الوهاب الرسالة في جيبه ونسيها بسبب انشغاله بتصوير الفيلم، وبعد الانتهاء من التصوير فتح الرسالة ووجد تلك القصيدة، وفي تسجيل بصوته يقول محمد عبد الوهاب بأنه لم يكن ينوي إدراج القصيدة في الفيلم وإنما أن يسجلها على اسطوانة مستقلة، لكنه بعد أن لحنها وأعجب بها قرر أن يدخلها ضمن أغنيات الفيلم، ولم يكن المخرج مقتنعاً أول الأمر إلا أن عبد الوهاب أقنعه بذلك، إلى هنا ينتهي دور الموسيقار محمد عبد الوهاب ويبدأ دور المخرج.
من خلال عودتي للفيلم الذي شاهدته مرتين من أجل هذه المقالة لكي ألم بالتفاصيل الخاصة بالأغنية، وجدت أن الأغنية لم تكن مؤثرة في أحداث الفيلم، الى الحد الذي يمكن معه حذفها، إلا إذا جاءت بعد تصاعد الأحداث واحتدامها بين الشاب جلال وحبيبته رجاء وزوجة الأب فاطمة هانم، وأخيها شفيق، كما أن كلمات الأغنية لا تناسب شاباً بسيطاً ليست له مغامرات ولا يشرب الكحول أو يبحث عنها كما تخبرنا القصيدة: (ونشدنا ولم نزل حلمَ الحب والشباب    حلم الزهرِ والندى، حلم اللهو 
والشراب)
ولم يصل البطل الى حافة الجنون (هاتها من يد الرضا جرعة تبعث الجنون) ولا من أحد يشعل النار حوله وحول حبيبته حتى بداية تلك الأغنية (يا حبيبي أكلما ضمنا للهوى مكان  أشعلوا النار حولنا فغدونا لها دخان) وكان مايزال البطل على ضفاف العلاقة، مجرد مشاعر يحسها تجاه رجاء فلم يكن بينهما لقاء غرامي أو قبلات فما هو الداعي لكلمات مثل (فحرقنا نفوسنا في جحيم من القبل)... هي قبلة واحدة سريعة وخاطفة جاءت بعد الانتهاء من الأغنية ولم تتكرر.. وكان يمكن أن تكون القصيدة المغناة ذات شحنة درامية مؤثرة لو أنها جاءت بعد احتدام الصراع بين الشخصيات.. فهل أخطأ المخرج محمد كريم في وضع الأغنية بمكانها المناسب المكان المناسب داخل الفيلم على الرغم من مكانة هذا المخرج في تاريخ السينما المصرية وما عُرف عنه من اهتمام بأدق تفاصيل العمل السينمائي؟ نترك الإجابة للمهتمين والمتخصصين بالشأن السينمائي.
أما قصيدة "جفنه علّم الغزل" فماتزال تملك وجداننا كلما سمعناها لحناً وكلمات، رغم مرور عشرات السنين على ولادتها، إنها القصيدة الخالدة العابرة للأزمان، لا يبلى الزمان جِدّتها، وستظل طازجة ومؤثرة في الوجدان، ربما بسبب إبداع ملحنها موسيقار الأجيال الذي لحنها على إيقاع الرومبا ومقام العجم فجاءت تحفة موسيقية رائعة.