جواد علي كسّار
المسلمون العرب هم أقلية في العالم الإسلامي، لكن بصوتهم العالي الرفيع يتصرّفون وكأنهم أكثرية، أو على الأقلّ بدوا وكأنهم الأكثرية، وأوحوا بأنهم هم مركز العالم الإسلامي وسادته والبقية أطراف للمركز وصدى له!
فلو أخذنا بالتقديرات التي تُفيد بأن العدد الإجمالي للمسلمين اليوم بلغ (1,850) مليار نسمة، فإن نسبة العرب الأصلاء منهم (وليس الناطقون بالعربية) لا تزيد بحال على (500) مليون نسمة.
ما ظلّ يُلفت نظري منذ أكثر من ربع قرن ولا يزال، هو ظاهرة بل مفارقة كبيرة، على مستوى التنمية والعمران، فقد لاحظتُ أن مؤشرات التنمية وتجارب النجاح العمراني متقدّمة على المحور الأعجمي للعالم الإسلامي، مقارنة بالمحور العربي، وإن كان صوت العرب العالي في الدعاية والإعلام وحضورهم المكثّف، قد حجب هذه الحقيقة أو غيّبها وقلل من أثرها، ومن ثمّ أضاع علينا فرصة ثمينة لدراستها وتأملها، للوقوف على عللها وأسبابها.
هذه حقيقة بسيطة تحمل أدلتها معها، بدءاً من ماليزيا والانقلاب العمراني الضخم الذي ترافق مع تجربة مهاتير محمد، مروراً بالتجربة العمرانية الإيرانية مع هاشمي رفسنجاني وأخلافه من الرؤساء، وانتهاءً بالتجربة العمرانية الضخمة في تركيا مع حزب العدالة والتنمية وأردوغان. من دون أن ننسى مؤشرات عميقة في تجارب الباكستان التي استطاعت أن تحقّق تقدّماً تكنولوجياً رفعها مبكراً إلى عضوية النادي النووي، قبل أي دولة أخرى في العالم العربي والإسلامي، وكذلك مؤشرات التقدّم الواضحة اليوم في اندونيسيا وكازاخستان وقرقيزستان وغيرهما من جمهوريات آسيا الوسطى، المنفصلة قريباً عن الاتحاد السوفييتي السابق.
السؤال بوضوح وعلى نحوٍ مباشر: لماذا نجحت التجربة العمرانية في المحور الأعجمي من العالم الإسلامي، واستطاعت أن تحقّق النهوض والتقدّم، فيما أخفق به المحور العربي الذي يتكوّن من أكثر من عشرين دولة؟ أين يكمن السبب في العقلية، أم الإنسان، أم البيئة الاجتماعية والموروث المدني، أم في الفكر السياسي، أم في الذكاء الباهر بالتقاط الفرص السانحة واغتنامها، أم في القدرة المتميّزة على إدارة الموارد، أم في أسباب نفسية ناشئة من ميل دول الأطراف لإثبات ذاتها بتحقيق تقدّمها على دول المركز، في إطار الدائرة الإسلامية؟
لستُ بصدد الجواب لأن الهدف هو أن نفتح ملف هذه القضية للنقاش، ولنكون في العراق والعالم العربي أكثر تواضعاً ازاء تجارب أشقائنا في المحور الأعجمي، وأكثر احتراماً لها. لكن كملاحظة عامة نجد أن منطلقات النهوض ومرتكزاته النظرية في طبيعة ارتباطها بالإسلام، تتفاوت كثيراً بين هذه التجارب، ما بين الإسلام الحضاري في ماليزيا، والهوياتي في باكستان، والاجتماعي في تركيا، وولاية الفقيه في إيران، ومن ثمّ لا يمكن للتفسير أن يخضع على مستوى الفكر الإسلامي النهضوي، إلى معادلة واحدة.
على أن حجم هذه المفارقة يتسع أكثر، ويبدو لنا مرعباً مهولاً في قدر المسافة بين واقعنا في العراق والعالم العربي، إذا أضفنا لمدار المقارنة، تجارب التقدّم العمراني في المحور المشرقي الآسيوي، بإدخال نماذج التنمية المتطوّرة في كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وهونغ كونغ أو ما يُعرف بالنمور الآسيوية، ثمّ وعلى رأسها اليابان والصين؟
مرّة أخرى سأترك هذا الملف مفتوحاً، تحت طائلة المراجعة والدراسة والتأمل وأخذ العظات، عسى أنْ يكون فيه ما يخفّف عندنا من وطأة احتراف الكلام وبلاغة الإنشاء ورطانة الألفاظ؛ إلى ما يدفعنا للتعامل مع أوضاعنا بواقعية وعقلانية، وبشيء كبير من التواضع المطلوب!