علي حمود الحسن
شهدت مدينة الثورة تشييد أول دار عرض سينمائية في العام 1969، بمبادرة من رجل أعمال لمّاح، قدّر حاجة هذه المدينة المليونية الكادحة الى هذا النوع من الترفيه، واسماها «الرافدين» تيمنا باسم المدينة، الذي أطلق عليها أبان الحقبة العارفية، وهي تسمية رسمية لم يعترف بها أهلها على أية حال، افتتحت الرافدين في العام 1970 بالفيلم العربي «أهلا بالحب» من بطولة فريد شوقي وصباح وإخراج محمد سلمان، إذ غنت فيه الصبوحة أغنيتها الشهيرة «على البساطة» التي شاعت على كل لسان، حتى أنها صارت مفتاحا لتقليل المهور العالية.
نجحت تجربة السينما نجاحا منقطع النظير، لكن هذا لم يمنع معارضة البعض من الأهالي لوجود سينما في مدينة عشائرية لها تقاليدها وأعرافها، الذين أشاعوا أنها «رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»، وتنبّأ آخرون «بأنها ستجلب العار والشنار»، وربما هذا يفسر أن معظم جمهور سينما «الرافدين» من الشباب والفتيان وحتى الأطفال، في حين نادرا ما يدخلها كبار السن والنساء، وما زلت أذكر كيف أنكر اشخاص يعيشون بالقرب منها، إلتقيتهم اثناء تحقيق صحفي لي عن تاريخ السينما، قبل ان تُزال من الوجود في تسعينيات القرن الماضي، أنهم دخلوها حتى في طفولتهم، ولم استفد بمعلومات وافية عن السينما والأفلام المعروضة فيها.
تتوسط سينما «الرافدين» أربعة قطاعات، هي: 22 غربا، و28 شرقا، و21 شمالا، و23 جنوبا، لكنها أقرب إلى قطاع 22، وتجاور سوق شعبية كبيرة تدعى «جمالة»، وليس بعيدا عنها ساحة «أبو وليد» لكرة القدم، وخلفها تماما مكتبة العباس ابن الأحنف، التي تأسست هي الأخرى في منتصف ستينيات القرن الماضي، أحاطت بناية السينما محال وبسطات أشهرها: «خياطة الزيزفون»، و «حجي ناظم أبو المنضدة»، و «شذر أبو الفلافل»، و «جبار لبيع الجرايد»، وعمل في السينما كثير من أهل المدينة أبرزهم: عبد الله الفيلي مشغل السينما، وقاطعو التذاكر الحاج حسون، وأبو كريم جبار، وحارسها الأمين جبار بشاخ، ومديرها فاضل أبو عباس، وكانت أثمان التذاكر حسب مواقع كراسها؛ فما كان قريبا من الشاشة في الطابق الأرضي بـ 60 فلسا، وغالبا ما تكون خشبية، يفصلها عن موقع أبو الـ «100» حائط - يحاول بعض الحالمين من رواد «أبو الستين» بحرق المراحل الطبقية - تجاوزه لتتلاقفهم أيادي سدنة السينما وضابطي إيقاع جمهورها، الذين غالبا ما يكونون من «الشقاوات»، و «الخوشية»، فيما شغلت الطابق العلوي مقاعد الدرجة الأولى (110 فلوس).
شغف شباب المدينة بالسينما، التي تبدأ عرضها الأول في العاشرة صباحا، والثاني في الواحدة ظهرا، والثالث في الرابعة عصرا، والدور الأخير في السابعة مساءً، وهو دور «الصد ما رد»، مثلما أطلق عليه بعض الطرفاء من ضحايا عشاق الأفلام، وأدمن الكثير منهم مشاهدة أفلامها، لاسيما الهندية وأفلام العصابات، حتى أن الكثير منهم بدأ يتسرّب من المدارس القريبة ويرتادها، فليس غريبا أن تجد مدير مدرسة غيور يفاجئ طلبته، وهم منهمكون بمشاهدة الفيلم، ويمسكهم متلبسين بالجرم المشهود، بعد أن يطلب من إدارة السينما إنارة القاعة، فيتطافر الطلاب كالجرذان والمدير يهدد ويتوعد، وكم من مرة صادرت عصابات، غالبا ما تكون من السمر مبلغ الستين فلسا من جيوب الفتيان، الذين يعودون الى بيوتهم خائبين، وان كنت محظوظا ونجوت من هؤلاء، وتسنى لك الدخول لتتمتع بفيلمك المفضل، فستتعرض لشلال من البصاق، الذي ينزل كالمطر من الطابق العلوي، مصحوبا بقشور حب عين
الشمس، وان سلمت من هذا وذاك فثمة ما ينتظرك من بائع البيسي كولا، أو «لفات الفلافل»، الذين لا يجيدون الترويج لبضاعتهم، سوى بالصفعات والكلمات النابية، وقد حدثني صديق مهتم بالسينما، كيف أنه كان يشرح جماليات اللغة السينمائية لأصدقائه، عن فيلم هندي يتابعونه باهتمام، فنسي نفسه وراح يتحدث لهم بصوت جهير، فجاءه الرد صاعقا، من خلال ضربة يد مجهولة على قفاه صمت على إثرها رعبا، واختفى صوته لأيام، والامر لا ينتهي عند هذا الحد، إنما تستمر تداعيات الرعب الى ما بعد المغادرة، خصوصا أولئك الذين عليهم المرور بقطاع 28، اذ تكون بانتظارهم كلاب القطاع الرهيبة، التي تطاردهم حتى عقر ديارهم،
بلا رحمة.
ثمة جمهور آخر، ممن لا يمتلك ثمن التذكرة وجد في مبنى السينما الخلفي، قريبا من مكتبة العباس بن الاحنف، ملاذا آمنا فتراه يتابع الحوار وأغاني الأفلام الهندية بمتعة وحبور، وحينما لا يوجد حوار، أو مؤثرات، يلتجئون الى التصفيق، «فيرجع الصدى بهجة وحبورا، مازال طعمهما الى اليوم يُذكّر بأيام طفولتنا السعيدة» مثلما قال لي إحسان خاشقجي مؤرخ المدينة وسارد حكاياتها الشفاهي.