ما وراء التطبيع

آراء 2020/08/16
...

محمد شريف أبو ميسم 
 
التطبيع اختصاراً، هو مصطلح سياسي يرادُ به جعل العلاقات طبيعية بين دولتين بعد مرحلة من القطيعة أو التوتر لأي سبب كان، إذ تعود العلاقة طبيعيَّة وكأنَّ شيئاً لم يكن بشأن القطيعة السابقة. بيد أنَّ مفهوم التطبيع مع الكيان الاسرائيلي يعني وبالضرورة جعل ما هو غير طبيعي، طبيعياً، ولا يعني على الإطلاق إعادة الأمور إلى طبيعتها كما يحاول البعض تسويقه، إذ إنَّ تفسير مفهوم "إعادة الأمور الى طبيعتها" يحتمل منحيين، الأول أنْ تعاد الأرض المغتصبة الى أهلها، وهذا الأمر غير وارد في سياق سياسة الكيان الاسرائيلي التوسعية، والثاني يفتح الأبواب على مصراعيها لتكريس سياسة الاحتلال والتوسع القائمة على الفكرة الصهيونية المتمثلة بالشعار الرسمي لأرض إسرائيل الكبرى: "من الماء إلى الماء تترامى حدود الدولة اليهودية" على أرض قائمة بحدود زرقاء بين مياه النيل ومياه الفرات، يسمونها أرض الميعاد بحسب الوعد الالهي في مورد نصوص توراتية طعن بصدقيتها الكثير من المؤرخين اليهود أنفسهم، فضلاً عن المتخصصين في الشأن التوراتي، والوعد بحسب هذه النصوص كان في البدء إلى إبراهيم، التكوين - الإصحاح 15 الآية 14 (وفي ذلك اليوم قطع الرب مع آبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات) وتجدد العهد بعد ذلك إلى ابنه إسحاق بن سارة التي "غارت" من خادمتها هاجر بعد أنْ تزوجها ابراهيم وأنجبت له إسماعيل، (التكوين - الاصحاح السادس عشر - الآية 6: فقال آبرام لسارة هو ذا جاريتك في يدك، افعلي بها ما يحسن في عينيك، فأذلتها سارة، فهربت من وجهها) فأخذهما إبراهيم هي وابنهما ليتركهما في الصحراء، ثم تجدد الوعد ليعقوب بن إسحاق. 
وأسندت أرض الميعاد لأولادهم، وكان وصف الوعد في شروط تلزم امتداد الأرض من نهر مصر إلى نهر الفرات، إذ يحل الإله في الأرض، لتصبح أرضاً مقدسة ومركزاً للكون، ويحل في الشعب ليصبح شعباً مختاراً، ومقدساً وأزلياً بعد طرد أحفاد إسماعيل كما طرد جدهم من هذه 
الأرض.
هنا لا يكون التطبيع إقراراً بواقعية ما اغتصب من الأرض وحسب، وإنما سيكون إقراراً بما سيغتصب في إطار ستراتيجية حديثة تعتمد سياسة الاحتواء الاقتصادي وفق مفهوم ليبرالي يمنح الحرية المطلقة لرأس المال الأجنبي في حدود الدولة، ويمنح هذه الأموال حقوق "مواطنة الشركات" مثلما يتمتع المواطن العادي بالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فتكون الملكية حقاً مشروعاً للرساميل الأجنبية، في ظل حاجة دول المنطقة "التي دمرتها الحروب الداخلية والفتن" للاستثمار الأجنبي القائم على عولمة الإنتاج والأسواق وحركة الرساميل التي تهيمن عليها الأسر اليهودية المتطرفة وفي مقدمتها أسرة "روتشيلد" المتطرفة والتي تقدر ثروتها بنحو نصف ثروة سكان كوكب الأرض، ما يعني استبدال أدوات الهيمنة العسكرية بأسلوب الاحتواء الاقتصادي والثقافي للأمم الذي يسحب خلفه وبالضرورة مفهوم عولمة الأمن لحماية الاستثمارات، بعد أنْ بات من المعروف أنّ سلطة رساميل العولمة هي التي تصنع الحكومات وتتحكم بالقرار السياسي من الحديقة الخلفية للنشاطات الاقتصادية تحت مظلة النظام الليبرالي القائم على الحرية المطلقة والملكية والمسؤولية غير الملزمة، فما بالك والمنطقة برمتها ستكون منزوعة السلاح إلا من سلاح شركات العولمة الأمنية في إطار صفقة القرن؟