جواد علي كسّار
يلوح من المناقشات الفكرية الجادّة والمحاورات الإعلامية الرصينة، شيء من التصادم أو على الأقل من التدافع بين انتماءين للعراقي، إلى الأمة. ولهذه الحالة أسبابها المتعدّدة منها نظرياً، اللبس الناشئ عن مفهوم الأمة نفسه، بحيث لو نادينا بالأمة العراقية، فإن هذه الدعوة تلقى من فورها تداعيات سلبية تصطدم في وعي بعض العراقيين، مع مفهوم الأمة الإسلامية.
الأمة نظرياً مفهوم متعدّد الدلالات، نحتاج من بينها في المقام استحضار دلالتيه الحضارية والسياسية. فمن الوجهة الحضارية والثقافية والاجتماعية، الأمة مجتمع ذو سمات مشتركة مثل الجنس كالأمة العربية، والدين كالأمة الإسلامية، واللغة كالأمة الفارسية، وهكذا. أما من الوجهة السياسية، فالأمة تعبير عن تجمّع واعٍ من الأفراد لتكوين مجتمع سياسي موحّد تحت حكومة واحدة، مثل الأمة العراقية والأمة الإيرانية والتركية والألمانية، يعكس الإطار السياسي لدولها.
أهمّ ما ينبغي أن نأخذه بنظر الاعتبار، أن الأمة بالمفهوم الحضاري مجتمع مفتوح لأفراده جميعاً، لكنه مغلق على من يحمل جنسيته بالمفهوم الوطني السياسي، مع ما يترتب على ذلك من آثار مباشرة في تكوين الهوية. فلمفهوم الأمة منزعان في الهوية؛ الهوية بالمعنى الحضاري الاجتماعي، والهوية بالمعنى الوطني السياسي؛ أو الهوية بالانتزاع والهوية بالتركيب. فالاستعمال الأول يعكس الهوية مُنتزعة ببُعدٍ ما، من تحيّثات جماعة من الأفراد. بينما يعكس الاستعمال الثاني الهوية والتوجّه الاجتماعي والسياسي لجماعة من الأفراد؛ أي الهوية مركّبة على واقع اجتماعي.
وما ندعو إليه ويمثل مُرادنا من الأمة والهوية والوطنية العراقية، هو المعنى الثاني دون الأول. هذا المفهوم للأمة (الأمة – الدولة) يحفظ للبلد مصالحه وفي الوقت نفسه لا يقطع علاقته مع الأمة بمفهومها العقدي وبُعدها الأدلجي. فالعراق يحقّق من خلال مفهوم الأمة العراقية بناء دولته، ويحصّن مصالح العراقيين، من دون قطيعة مع متعلقات الأمة بمفهومها الحضاري العام. بلحاظ الدين مثلاً، يبقى العراقي المسلم جزءاً من الأمة الإسلامية، والعراقي المسيحي جزءاً من المسيحية العالمية، وبلحاظ اللغة يُعدّ العراقي العربي جزءاً من الأمة العربية، والكردي جزءاً من الأمة الكردية، والتركماني جزءاً من الأمة التركمانية، وهكذا.
هذا على عكس الأمة بمفهومها الأول؛ العقدي الحضاري والثقافي، الذي يهدر حين يُسيَّس ويخرج من دائرة المشاعر إلى حيّز الدولة، مصالح العراق ويغتال سيادته ويصادر حقّ أهله بثرواته، تارة باسم العروبة والقومية والأممية العربية، وأخرى باسم اليسار والشيوعية العالمية، وثالثة باسم الإسلام والأممية الإسلامية، والخاسر على مرّ الأوقات هو العراق، كما كشفت تجربته بين الأمس واليوم؛ ما قبل التغيير وبعده.
في حين نرى أن التصوّر المتوازي للأمة بين البُعدين الحضاري والسياسي، لا يخدش إيمان أنصار الأمة العقائدية، والمفروض أنه لا يزعجهم، لأنه يحفظ للعراقي مصلحته في بلده ونطاق دولته وداخل حدوده، وفي الوقت نفسه لا يقطع صلته مع المركّبات الأممية الكبرى؛ الإسلامية والعربية خاصة.
لن أكلّ ولن أملّ من تكرار معنى أدركته نظرياً بعمق وعشته عملياً بوجودي ووجداني، بالإحالة إلى بلدين من أهمّ بلدان المسلمين، حقّقا هذا التوازن بين أمة الدولة وأمة المعتقد؛ أمة السياسة وأمة الحضارة؛ ورغدا بهذا الانسجام، وأكلا من مغانمه وحققا عن هذا السبيل أعظم المصالح لبلديهما، ومنافع منظورة لأمة المسلمين؛ أقصد بهما إيران وتركيا، تلحق بهما مصر في المجال العربي.
الدعوة هنا إلى وطنية متصالحة مع نفسها؛ مع هويتها وانتمائها الحضاري والسياسي معاً. الوطنية المتصالحة مع نفسها لا تكون كذلك، إلا وهي ترتكز إلى مفهوم الأمة – الدولة، لكن دون قطيعة مع الأمة كمركز معنوي وإطار حضاري.