محمّد صابر عبيد
يصبح الوهم حقيقة ويقيناً حين تتلبسُ المرءُ فكرةً ما تظلّ تلحّ عليه، وتضغط على تصوّراته ومشاعره، وتحيط بمجمل حياته في أهمّ مراكزها ومفرداتها، فتتحوّل إلى واقع يمشي على قدمين برحابةٍ واستئثارٍ وهيمنةٍ على الرغم من أنّ الدلائل المحيطة به كلّها تؤكّد وهميته وعدم صدقه، وربّما تقدّمُ الروايةُ من ضمن كشوفاتها على صعيد صناعة الشخصيّات أشكالاً من هذا الوهم الأدبيّ الخيالي
بوصفها أحد الأشكال التعبيريّة الفنيّة الأدبيّة التي تمثّل تجربة الإنسان في الوجود والطبيعة والأشياء، وتسهم على هذا النحو في تعزيز يقينيّة الوهم وواقعيّته وحضوره الاستثنائيّ في المجال السرديّ وهو يقوم أساساً على فضاء التخييل، ويزيح عن كتف الوهم ما علق به من فراغٍ وخواءٍ ولا شيئيّةٍ غارقةٍ في معنى السلب والاستلاب، بالمعنى الذي يؤسّس مكاناً حيوياً في عالم الرواية يتخطّى الدلالة التقليديّة السلبيّة ويدخل في سياق تقانيّ بنيويّ، يتحرّر من منطق اللا قيمة ويتكشّف عن قيمة لا بدّ منها كي يتمكّن السرد من النهوض بمهمته، وقد يكون المعنى الحقيقيّ لكلمة (السرد) في هذا المضمار هو (الوهم).
تتجلّى هذه الرؤية السرديّة للوهم في شخصيّة رجل عجوز محاصر بالأمراض كان يعمل كولونيلاً سابقاً في الجيش، اشترك في الحرب الأهلية “حرب الألف يوم” التي نشبت في بلاده كولومبيا ما بين 17 أكتوبر عام 1899 و 21 نوفمبر 1902، وبعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها ليسُرّح هذا الكولونيل من الخدمة العسكرية يبقى يعيش على راتبه التقاعديّ الضئيل مع زوجته التي تعاني من مرض الربو. وفضلاً عن معاناته من فقرٍ شديدٍ وهزالٍ جسديٍّ كبيرٍ فإنّ الألم يعتصره كلّما تذكر ابنه الوحيد الذي اغتالته السلطات الحاكمة في بلاده، لكنّه يتحصّن بقوّة داخليّة عجيبة تدفعه نحو الاستمرار في مهزلة الحياة صحبة زوجته المريضة المتعَبة في صمتٍ مرعبٍ نادراً ما تخترقه جملٌ مكسورةُ الجناح هنا وهناك.
يتملّك الكولونيل مع ذلك كلّه أو بسببه (وهمٌ) ساحرٌ يتجدّد كلّ يوم بإصرارٍ لا يعادله إصرار، يدفعه بقوّةٍ ودأبٍ وحماسةٍ نحو الذهاب إلى مكتب البريد كي يجد في انتظاره رسالة تنبئه بزيادة راتبه التقاعديّ، مع وهم آخر مضاف يتلخّص في أنّ ديكه الذي ورثه عن ابنه يكسب في المصارعة ويفوز بالجائزة الأولى ومبلغ كبير من المال. هذا ما تخبرنا به رواية “ليس للكولونيل من يكاتبه” القصيرة لماركيز التي نُشرت أوّل مرة عام 1961، إذ تشبّع هذا الكولونيل المتقاعد بهذا (الوهم) على نحو يشدّ عزيمته لمراجعة مكتب البريد كلّ صباح مسكوناً باحتمال تلقّي هذه الرسالة المزعومة، ولا يكفّ عن ذلك مطلقاً لفرط اعتقاده اليقينيّ أنّ ما ينتظره هو في طريقه إليه حتماً عاجلاً أو آجلاً. فما نراه نحن وهماً على هذا النحو لم يكن سوى حقيقة راسخة لدى شخصيّة الكولونيل
المتقاعد لا يخالطها عنده أيّ شكّ، إذ هو حتى اللحظة الأخيرة من حياته التي ما فتئ فيها يداوم على مراجعة مكتب البريد يومياً مؤمن إيماناً مطلقاً بأنّ ما ينتظره قادم إليه في كلّ يوم، وحين لا يحصل على شيء لا يصاب باليأس ويتخلّى عن نضاله لأجل الحصول على الرسالة التي هي في طريقها إليه، لكن على العكس من ذلك يمتلئ بيقين جديد أنّ ما ينتظره لسببٍ ما أو ظرفٍ طارئٍ قد تأجل إلى الغد، وهكذا يدور في حلقة من الوهم المكتظّ باليقين بلا عجز ولا هوادة ولا ملل ولا كلل ولا حزن ولا تراجع ولا تساهل مع الذات المكان والزمن. ولو عاينّا القضية بعيداً عن ثنائيّة الوهم واليقين التقليديّة وتعاملنا مع الشخصيّة الروائيّة هنا
على وفق مقياس آخر، ربّما لوجدنا مبرِراً معيّناً لعدم وصف هذه الشخصيّة بالجنون في سياق الالتزام اليوميّ بمراجعة مركز البريد وكأنّه يمارس الدوام العسكريّ اليوميّ الذي تعوّده قبل تقاعده، وبّما ما كان يهمّ الشخصيّة بالدرجة الأساس هو الدوام اليوميّ في مراجعة البريد أكثر من استقبال الردّ اليوميّ المتكرّر بأنّه لا توجد رسالة قادمة إليه، إذ تنتهي مهمته في القدوم نحو مركز البريد أولاً وقطع المسافة من بيته إلى المركز، ثمّ طرح السؤال على موظّف البريد إذا ما كان قد وصلته رسالة، وجواب الموظّف بالنفي، واقتناعه بالجواب آنياً، والعودة ثانية إلى بيته بانتظار صباح جديد لمعاودة الكرّة والقيام برحلة أخرى يواصل فيها ماراثونه داخل فضاء الوهم. إنّ البحث في أمرٍ ما يشغل البشر على نحوٍ يدفعهم إلى المضي قُدُماً في سبيل إنجازه وبلوغ نهايته هو أمر طبيعيّ يلخّص حركة الحياة الدائريّة، فمنهم من يقتنع بالوصول إلى الهدف والاحتفال بهذا النصر المُبين ببهجة كبيرة لا يحتاج فيها أكثر من ذلك أبداً، ومنهم من يُصابُ بالإحباط والفقدان بعد وصوله إلى هدفه بنجاح إذ يدخل في نوبة من الفراغ والخواء تحطّم حالته النفسيّة أحياناً، وهذا النوع ينظر إلى متعة وجوده المستمرّ في حالة البحث أكثر ممّا يتطلّع إلى الوصول وفقدان هذه المتعة فيما بعد، لذا هو يشتغل في نطاق بهجة البحث ولذائذه وحركيّته التي تجعل من شخصيّته في وضعية قلق وانتظار وتوقّع وديناميّة لا تتوقّف. هذه هي حال الكولونيل صاحب الخمسة وتسعين عاماً وقد أمضى خمسة عشر عاماً في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، غارقاً في وهمه الجميل الساحر وكأنّه في وضعيّة تنويم مغناطسيّ، لا يسعه سوى أن يحدّق مليّاً في وجه زوجته المريضة وهي تجذبه من ياقة قميصه هازّة إياه بما تبقّى لها من عنفٍ قديمٍ، وهي تسأله بعد أن فرغت علبة البنّ الوحيدة في المنزل ممّا تحتويه ولم يبق فيها سوى مقدار ملعقة واحدة عمّا سيأكلاه غداً، وهو بطبيعة الحال لا يملك الإجابة ولا يشغله سوى أن يمضي الليل حتّى آخره كي ينهض من جديد ويواصل المسير نحو مكتب البريد، في إحياءٍ أصيلٍ لوهمهِ اللذيذ الذي يوازي حياته تماماً حتى وإن نفدت علبة البنّ ولم يجد في الغد هو وزوجته ما يسدّ رمقهما.