الموالاة والمعارضة في بنية العقليَّة العراقيَّة

آراء 2020/08/18
...

د. عبد الواحد مشعل 

تتميز التجارب الديمقراطية الناجحة في المجتمعات الحديثة بالتكامل بين الموالاة والمعارضة في فكرها وأسلوبها السياسي طالما تكون مصلحة البلد هي الأعلى، وهذا يتحقق حينما تكون هناك رقابة واعية تصب في مصلحة المجتمع.
لكن الأمر مختلف في المجتمعات التقليدية ومنها مجتمعنا العراقي، فالموالاة والمعارضة هما قطبان متنافران، بل يعد كل واحد منهما عدوا للآخر، وهذا يرجع الى عوامل ثقافية بالدرجة الأولى، وافتقار كل منهما الأيديولوجية الناضجة أو الأسلوب أو السلوك الاجتماعي الذي يقبل الآخر بالدرجة الثانية، فيكون همهما السلطة، وليس تقديم الأنموذج الديمقراطي الأكثر نضجاً.
 
الرواسب الثقافية
لا يمكن تجاهل نظرية ابن خلدون وما ذهب إليه د.علي الوردي عن طبيعة المجتمع العربي بشكل عام، فانطلق ابن خلدون في نظريته عن العصبية بعدها متغيرا أساسيا في بقاء المجموعة البشرية قوية بقيامها على رابطة الدم، كما يمكن أن تكون أيضا قائمة على وحدة المصالح المشتركة، بالضد من مصالح فئة أخرى تهددها باستمرار، إذ يقرر أن تحقيق مستوى معيشي أفضل يشعرها بالراحة والرفاهية، فعندئذ تبدأ العصبية بالضعف ما يشعرها بشيء من التفكك والضعف والانحلال، لتأتي مجموعة أكثر منها عصبية لتقضي عليها، وتنتزع منها السلطة. وينبغي التأكيد أن العصبية تختلف من مجتمع الى آخر فنجدها أقل حدة في السلوك العام بالمدن الكبرى التي تأثرت بالحداثة، بينما تشتد في المناطق الصحراوية والريفية، وربما تكون أقل حدة عند الأجيال المتعلمة في الريف، ولكن ذلك لا يخرج عن جوهر السياق الثقافي المعتاد هناك. كما نجد القرب من العصبية أو الابتعاد عنها مرتبطا بمتغيرات جوهرية تخص الصيرورة الحضارية للعالم اليوم، وكيفية تعامل أبناء المجتمع العربي، ومنه العراقي معها، وسط تراجع حضاري واضح يعيشه المجتمع بشكل عام، حتى أننا بتنا نعيش ازدواجية واضحة بين تأثير تقنيات العالم المتقدم، وسلوك لا ينفك عن الرواسب العشائرية التي تتحكم في تصرفاتنا وتعاملاتنا وأقوالنا وأفعالنا سواء في الحياة الاجتماعية أم السياسية، بل أصبحنا ندور في مدار سياق ثقافي لا يزال يغذي بنيتنا العقلية السياسية، بينما نتبنى شكلا ديمقراطيا مقلدا لأنموذج ديمقراطي متطور، ولكن شتان بين آليات التطبيق الديمقراطي في المجتمعات المتطورة، وبين ما يمارسه النظام السياسي العربي من آليات مسك الحكم حتى الممات.
 
الموالاة والمعارضة في الميزان
إذا انطلقنا من تصورات ابن خلدون تلك في توصيف المجتمع العربي نجد النظام القبلي ما زال يحظى بمنزلة من المجتمع، وقد يقول قائل أن الزمن قد تغير وأن الحياة قد تطورت، ولم يبق من آثار العصبية شيئ ، قد يصدق هذا القول على المجتمعات التي حققت تغيرا صناعيا مفصليا أعقبه تغير ثقافي بنيوي نقل المجتمع الى حالة من الحضرية، لكن هذا لا ينطبق على مجتمعاتنا التي لم تحقق مثل ذلك التقدم، لذا فان العصبية القبلية ما تزال كامنة في نفوسنا وعقولنا، لذا فان الموالاة أو أصحاب السلطة يعدون أنفسهم هم الأقوى ويحظون بالمنعة والتفوق، أما المعارضة فهم الخصم اللدود الذي يتربص بهم الدوائر لانتزاع السلطة منهم، وبهذا المعنى فان البنية العقلية العراقية لا تخرج عن هذا التوصيف، والعصبية هنا قد لا تأخذ شكلا قبليا ظاهريا، إنما تأخذ شكلا آخر مثل العصبية الدينية أو المذهبية وغيرها، ولكنها في الأصل ليست كذلك، إنما هي العصبية القبلية أو الرابطة الدموية أو المصالحية نفسها، لكنها تأتي متخفية تلبس لبوس تلك الأشكال لتفرض إرادتها، لذا لا تزال البنية العقلية السياسية بعيدة عن مفهوم التكامل بين الموالاة والمعارضة، وهذا الإشكال أهم عوامل التأخر والصراع الذي يجعل كل فريق يعيش هاجس الخوف من الآخر، لان في اعتقاد الموالاة أن المعارضة لا ترحمهم حينما يكون الأمر لها، والمعارضة أيضا تحمل ذلك العداء للموالاة وفي النهاية يكون المجتمع الكلي هو الخاسر، بينما الأصل في العلاقة المفترضة بينهما خلال التجربة الديمقراطية الناجحة أن تكون المعارضة صديقة للموالاة، وفي الوقت نفسه رقيبا عليها تتابعها في إجراءاتها وقوانينها وسياساتها، وإذا ما بلغنا هذا المستوى يكون المجتمع الرابح الأول والأخير في تطوره وتقدمه. الوصول الى تحقيق ثقافة الاعتراف المتبادل بين الموالاة والمعارضة لايمكن بلوغه إلا عندما يكون الوطن وتطوره والارتقاء به هو الهدف والغاية لكل الأطراف، وبهذا نكون قد عبرنا الى بر الأمان، وبدأنا الخطوة الأولى في بناء الدولة المدنية التي يحكمها القانون، وهذا لا يتحقق، إلا عندما تضع الدولة ستراتيجية التحول البنيوي الثقافي الذي ينبغي أن تكون أولى أولياته تتبنى المعرفة العلمية والتحول الصناعي والزراعي الواسعين، وما سيترتب عليه من تغير في البنية العقلية العراقية، وقبولها بالتعدد كمبدأ أساس للإبداع والابتكار. وبدون ذلك سيكون الميزان مختلا، ونعيش عقودا طويلة يحكمنا السياق الثقافي الأحادي الذي لا يرجى منه إلا ضياع الزمن وحصاد أكثر من حالات التأخر والتراجع في عالم يتسابق فيه الجميع اقتصاديا وتكنولوجيا وثقافيا لتحقيق الرفاهية والاستقرار، وتحقيق مثل هذا ليس أمرا هينا ولا يأتي بالمقالات والدعوات إلا إذا اقترنت بالإرادة السياسية الصلبة، وتبني مشروع نهضوي تبدأ أولى خطواته ببناء سياق ثقافي جديد من مراحل التعليم الأولى وبلورة رؤية جديدة في تنشئة جيل قادر على نفض غبار كثير من تبعات النظم التقليدية الكامنة في البنية العقلية العراقية لتجعلها أكثر انفتاحا وتقاربا مع الآخر من أجل ترسيخ ثقافة ايجابية جديدة للعلاقة بين الموالاة والمعارضة في شكل تكاملي تكون فيه محصلة المجتمع فوق كل الاعتبارات.