استعادة صورتي الملك والزعيم في «ذكرياتي» للجواهريّ

ثقافة 2020/08/18
...

د. عبّاس آل مسافر

تزامنًا مع استذكار مرور أكثر من 60 عامًا على ثورة / انقلاب 14 تموز والتي قام بها/به مجموعة من ضباط الجيش العراقيّ على النظام الملكي الذي حكم العراق منذ أوائل العشرينات من القرن الماضي، وقاموا بتأسيس النظام الجمهوريّ لأول مرة في البلاد بعد التخلص من الاحتلالين العثمانيّ والإنكليزيّ، ولو اطّلعنا على المؤلفات التي كُتبت عن الثورة 

على كثرتها ـ فنجدها أمّا معها تلمع صورة الزعيم ونظامه الجمهوري وتقبّح صورة الملك والنظام الإقطاعيّ، أو ضدها تقوم بالعكس، تمدح الزعيم وتبرّر قيامه ورفاقه بالحركة التي انبثقت من داخل المنظومة العسكريّة، ويبدو بأنّ الأمرَ مختلف جدًا حينَ نستنطق «مذكرات» لبعض رجالات الدولة وأدبائها أو قياداتها ومؤرخيها، لتستنتج من ذلكَ أنَّ صورة الماضي القريب عن قرب، ونستجلي الأحداث التي لم نكن حاضرين فيها، بل ينقلها صاحب المذكرات على مسؤوليته، لاسيما أنّه يكتب كلَّ شيء من دون وجلٍّ أو خوف أو حتى حياء في بعض الأحيان، يكشف عن المسكوت عنه، عن مراهقته ونزواته عن طيشه وعن نضجه وهو في آخر أيامه لا ينتظر مدحًا كما أنه لا يخاف من قدح أحد أن أراد ذلكَ. فكيف بالأمر لو كَتَبَ أكبرُ الشعراء المعاصرين عمرًا وفنًّا عن عهدين من الزمن عاشهما من ضمن ما عاشه من المئة عام، فهذا يعني نحنُ أمام نصّ سرديّ بامتياز من الناحية التقنيّة، ومن الناحية الموضوعيّة، نتسلم معلومات موثّقة من شاهد عيان بطريقة حكي تسرد لكَ الأحداث كما هي، وكما عاشها الكاتب بشكل مباشر من دون واسطة أو استدعاء شاهد ليؤكد لنا تلك الأحداث متكئًا على ذاكرته العجيب وهو شيخ بلغ الـ90 عامًا من عمره، إذ يلحُّ على هذه الذاكرة بالتفاصيل البسيطة. 
ما يزيد على الألف صفحة من السرد، يأخذنا الجواهري في كتاب مذكراته والذي عنونه بـ « ذكرياتي» الصادرة  بجزئين عام 1989 بالنسبة للجزء الأوّل و1991 الجزء الثاني عن دار الرافدين في دمشق كلَّ ما دار بينه وبين ملوك العراق الثلاثة الملك فيصل الأول وابنه الملك غازي وحفيده الملك فيصل الثاني، وحاشيتهم لاسيما حيدر رُستم من جهة، والزعيم عبد الكريم قاسم والضباط من مفجري ثورة 14 تموز ومن سار بمركبهم من جانب آخر، ويتضمن أيضًا مواقفه ومناكفاته ومعاركه وخصوماته، وتوسطاته ومغامراته ومشاكله الأسريّة، وطموحاته بأن يكون نائبًا في المجلس الوطنيّ. 
سيرة الجواهريّ من خلال كتابة المذكرات هي انعكاس لصورة الصراع الذي كان يعيشه المجتمع آنذاك، صراع الطبقات مع بعضها البعض، وصراع السياسيين، وصراع الحداثة وجدل بناء الدولة مع القيم الكلاسيكيّة الرثّة والباليّة، صراع الفن والموديل مع المألوف والسائد، وصراع القيم البدويّة مع الحضارة الأوربيّة الوافدة لبلاد مازالت تئن تحت وطأة التبعيّة. 
ولو ركزنا على نهاية العلاقة بين الجواهريّ وبين كلٍّ من الملك والزعيم لوجدنا خلاصة تجربة دامت لعقود من الزمن، بعيدًا عن الكراهية والحب قريبًة جدًا من الحقيقة والموقف. 
ولو أردنا تتبع مسارات الأحداث بعيدًا عن العواطف الشعبيّة والعقل الجمعيّ فإنّنا نجدهما ـ الملك والزعيم ـ قطبين مختلفين تمامًا ولا يوجد توافق بينهما بحسب ما ورد في «ذكرياتي»، وقد كانت علاقة الجواهري بهذين القطبين متذبذبة وغير مستقرّة، ودائمًا ما تكون هناك تجاذبات وتباعدات وانسجامات في بعض الأحيان، وصعود وهبوط بالعلاقة، وأول تلك العلاقة هي حينَ عمل الجواهريّ في البلاط الملكي، وقد شهدت تلك المرحلة أن أحاطه الملك فيصل الأوّل بعنايته واهتمامه وإفساح المجال أمامه لكي يطير عاليًا في سماوات الشعر والثقافة والصحافة، ثم تكدّرت العلاقة وآلت إلى الانفصال، حين شعر الجواهريّ بأنَّ حدود البلاط تضيق عليه، ولكن مع ذلك لم يقطع الملك خيط الود معه؛ بل جعل له معاشًا جاريًا مادام الملك موجودًا على عادة الملوك في الحنو على خاصتهم، ثم تجدّدت العلاقة مع الملك غازي ولكن بشيء من الفتور، ومع الملك فيصل الثاني أيضًا عن بعد، ولكنها العلاقة كانت العلاقة مع الوصي ونوري السعيد تشوبها المؤامرة أكثر من الاحترام لمواهب الشاعر وتقدير نبوغه وتصدره الصحف العربيّة وأصداء المنتديات، إلى أن أدى به الوضع إلى دهاليز المعتقل والمطاردة والتضييق، بسبب مواقف الصحف التي كان هو صاحب امتيازها، وكانت على أشدها قساوةً أيام ساطع الحصري مسؤول في وزارة المعارف، وبعد ذلك مع صالح جبر وزير الداخليّة آنذاك.
وهناك صورتان يمكن من خلالهما أن نستشف موقف الجواهريّ من الملك والزعيم، لاسيما أنَّ هاتين الصورتين هما آخر عنقود في سلة العلاقة معهما، الصورة الأولى، هي، يذكر صاحب المذكرات عن الملك «فيصل الأول» وكيف كان يتودد له «والتفت إليّ الملك فيصل وكانت الصحف قد نشرت خبر بعثة، هي أول بعثة من نوعها إلى باريس ليقول لي: يا محمد هذه بعثة مهيأة، وأنت محلك في الصميم منها، ولك كل المؤهلات لكي تكون ذلك، خذ مكانك منها، ومن الحضارة تستقيها وجهاً لوجه في باريس ومن لغتها ومن تجاربك فيها، ثم عد لتكون صحفياً أو غير صحفي كما تحب وكما تشاء، وسكت هنية صغيرة، ولا أدري من أين علم بزواجي لأنني لم أخبره كما تفرضه الاعراف المألوفة في مثل هذه الوظائف ان تكون مع الملك وأن تُعلمه بزواجك، وبزوجتك ومن أين هي، فلربما كانت أجنبية وهذا ما لا يجوز، وذلك شيء يجب أن يلّم به، وأنت معه وفي حاشيته، قال لي: أنا أعلم أنك متزوج وراتبك يافلان ماشٍ إلى جانب مخصصات البعثة» (ذكرياتي: ج/1  234).
أمّا موقفه من الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان صديقًا له قبل اندلاع الثورة عام 1958 وقد التقاه في إحدى دول الاتحاد السوفيتي، والذي أمر بعد أن أصبحَ رئيس أول جمهورية عراقيّة شخصيًا بتسهيل إعادة فتح صحيفته الرأي العام، وأيضًا تسهيل قروض مالية مع تسهيل تأجير أرض زراعيّة في مدينة العمارة، فضاعت كل تلك الأمور أدراج الرياح، حين يقول عنه «واستمرت الحلقات المتسلسلة قبيل نهايتي المحتومة وعندما لم يجد كريم قاسم ولا كل من استنفره من أجهزة الأمن ومن الصحف المبتاعة ولا بكل من جنده للتجسس عليّ في كل من حولي في مطابع الجريدة وفي إدارتها وحتى لمن كانوا يفدونني بأنفسهم وممن ربوا عندنا وممن سموا أولادهم بأسماء أولادنا، وعندها فقد التجأ الى ما لم يبرد من دمي شيئاً ولا أن يشفي غليله شيئاً هو أن يزرع على قدر عليه من المتسفلين من جهازه هذا حتى من الباعة على جانبي الطريق من يضايقني في ذهابي وإيابي» (ذكرياتي ج/2 :271). نقرأ هذا النص ونحنُ نعلم بأنَّ الزعيم زارَ الشاعر أكثرَ من مرة في بيته زيارةً خاصةً تناول فيها الشاي مع الأسرة.