تكسير المكان/ الزمان

ثقافة 2020/08/18
...

ياسين النصير
وأنت تسافر بين المدن على الطريق السريع تجد نفسك في محطات وقوف عدة، تسمّى هذه المحطات بـ (كِسر المسافة)، حسب تعبير هنري لوفيفر، كمحطات تعبئة البنزين، ومناطق وقوف سيارات الشرطة، ومطاعم للوجبات السريعة، وترتصف مع التكسرات تنظيمات رصف أعمدة الكهرباء والأشجار، والمساحة الشاسعة التي تحيط بالطريق، وبعض الحيوانات المارّة. هذه التشكيلة التي تفرضها المسافات الطويلة تتعلّق بالسرعة وأشغال الرؤية، عندما تكون السرعة فوق 120 كيلومترا في الساعة، ستكون علامات الطرق ملغاة من الرؤية بالرَّغم من وجودها، والعكس تمامًا عندما تكون سفرتك في الطريق السريع قبل الساعة السادسة صباحًا، كما يشير مارك أوجيه، في «اللا أمكنة» ستكون متفحصة للأشياء المحيطة بالطرق السريعة خاصة تلك الضرورية لحركة تنقّل الأفراد والملكيات و (محتويات الطرق، التقاطعات، المطارات)، وكذلك وسائل النقل بحدّ ذاتها، والمجمعات التجارية الكبرى، أو «حتى مخيمات العبور المترامية الأطراف حيث يتكدّس لاجئو العالم» هكذا ستكون كلّ الأشياء خاضعة للمسافة. بينما بطء السرعة يعني التعرف على شعاب الطريق وتتعرف على المسافة التي تفصلك عن لوحات الإعلانات وأعمدة الشارع، وترى بوضوح صفّ البيوت المحاذية للطريق السريع، حتى أنك ترى ما خلف الستائر الشفافة، وربما تشعر بتلك التثاؤبات التي تطلقها الأنثى بعد استيقاظها من النوم. إحساس كبير توفره المسافات عندما تكون واعيًا بها.
عندما نتحدث عن علاقة المكان بفنّ الراوية لا يكون حديثنا خاصًا بكلية المكان ولا بكلية المسرود الروائي إنما يتم الحديث عن تكسير الأمكنة الكلية وعن تنويع المسرود تبعًا لهذا التكسير، إن مادية الرواية ومرجعياتها، وما يتعلق بها، وبجذورها ورؤيتها المستقبلية، ليس نتاج مكان واحد، ولا زمان واحد، بل نتاج أمكنة وأزمنة، انبثقت من الأمكنة الكبيرة نتيجة تكسراتها وتفتتها، إنَّ ما يخص علاقة مسرود الرواية بالمدينة مثلًا، سيترشح من خلال تكسرات المكان المديني الذي تنشأ فيه الأحداث، وهو المكان الذي يشمل، فضلا عن تنوع المسرود؛ تنظيم أشكال الحياة المدينية، وتنظيم شوارعها ومؤسساتها، وحياتها اليوميَّة، وأسواقها، وأزيائها، وألعابها، ولهجاتها، وعلاقاتها الفلسفية مع عمارتها وهويّة التجمّعات السكانية فيها، والبنى الاِجتماعية المختلفة التي تؤسس العلاقات بين سكانها، دون أن تغفل دور السلطة، والقانون، وحقوق الإنسان، والوعي بالتطور... وغيرها، فالرواية جنس كلياني يُنظم العلاقات بين أمكنة المدينة والنص، وبينها وبين فنّ العمارة، وبينها وبين فنون الكلام، وبينها وبين طاقات الجسد، وبينها وبين تنوع المجتمع، وبينها وبين تطور الفلسفة...الخ. ومع فهم مسافات المدينة وتنوعها وكلياتها، يتمّ تحديد السلوك الفرديّ والجماعيّ لمجموعات تتميز بأنها قادرة على صياغة خِطاب معاصر ينظم كل جزئيات الأمكنة عبرالمسرود الروائي، فيكون «هنالك زمن للأكل، وزمن للنوم، وزمن للعمل، وزمن لتصفح الأنترنت... إلخ، والمشاريع الاِجتماعية تصطدم دائمًا بـ» قيود إضافية» مثل الحاجة لامتلاك ممرات زمانيّة- مكانيّة لأشخاص يلتقون لإنجاز أمر ما أو صفقةٍ ما. وتقام هذه الصفقات في العادة داخل حدود اطار جغرافيّ مكون من (المحطات) المتوافرة (أمكنة مخصصة لأنشطة، مثل: العمل، والتبضّع، ... إلخ)، ومن (مجالات) يسود فيها تلاقٍ اجتماعيّ معيّن، أو لماذا يتغير (كسر المسافة) بحسب الوجهة التي ينجزها فعلا». 
علينا أن ندرك أن كتابة مسرود للرواية ليس هو كتابته من كلمات، بل هو كتابة الشيء المدرك لعلاقة الكلام بحركة الأشياء، بالرؤية لها، إن كانت تحت امكانية تشكلها بصريًا، أو تحت امكانية رؤيتها المغبشة من وراء ستائر الصباح، كل شيء يتم في الرواية عبر أن تراه وتتمكن منه، الرواية ممر سريع بين أمكنة وأزمنة العالم، هي تلك العربة التي  تترصد ما يحدث على جانبي ممرات المدينة، كي تلتقط ما يحتاجه مسرودها.