عدالة القاضي في اجراءات التقاضي

آراء 2020/08/19
...

القاضي ناصر عمران الموسوي
عند سبر اغوار التراث الاسلامي تطالعنا صور مشرقة تضج بعدالة الاجراءات القضائية المتخذة  من قبل الحاكم والتي تؤكد مفهوم  الترويج الاجرائي لعدالة الحكم القضائي من قبل القاضي وترسيخه عند اطراف النزاع او القضية ولعل  (قصة الدرع) واحدة من صور العدالة الاجرائية في الدولة الاسلامية حيث نازع الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في درعه الخاص يهودي، فاستعد الإمام  وهو خليفة المسلمين للتحاكم إلى القاضي شريح مطالبا بحقه وهو ما يعرف اليوم (باللجوء الى القضاء)  فوقف الطرفان امام القاضي
و لم يمُنع القاضي من تطبيق الاجراءات القضائية بعين الحق والمساواة  فحكم ضد الإمام، حيث طلب من الإمام البيّنة، وحسب الموازين القضائية  فان الامام (مدعياً) واليهودي (منكراً) إذ اليهودي كان ذا يد على الدرع، وحيث لم يكن للإمام بينة، حكم القاضي بأن الدرع لليهودي من باب القاعدة الشرعية والقانونية (الحيازة في المنقول سند الملكية ) مع التأكيد على احترام القرار القضائي من قبل الجميع  وهو امر ارسى قاعدة قضائية مهمة وهي ان الجميع سواسية بمواجهة القضاء مهما كانت مناصبهم ومهما اختلفت مشاربهم سواء كانوا من دين واحد او من ديانات مختلفة ومهما اختلفوا في الجنس و اللون والعرق والقومية ، وهو سلوك دأب رئيس الدولة الاسلامية على ترسيخه لدى الولاة وقد ترجم ذلك في عهده  لعامله على مصر مالك الاشتر حاثا ً اياه على  اختيار القضاة من افضل الناس المعروفين بعدالتهم ونزاهتهم  فيقول في كتابه المعروف بعهد الامام لمالك الاشتر  ( ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ‏ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ افْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ) .
واذا كانت تلك الشروط الخاصة التي يضعها الحاكم علي بن ابي طالب (ع) للوالي مالك الاشتر باختيار القضاة فانه يضع الاسس الصحيحة في تولي هذا المنصب المرتبط سنخيا مع مفهوم العدالة ، ولم يكتف التراث الاسلامي بذلك في ارساء مفهوم الخضوع للقانون واستقلالية القضاة واختيارهم بل يصل الامر الى التوصية تأكيدا ً على المساواة والحياد في ذاتية وسلوك القاضي اولا قبل الاجراءات القضائية  وفي  رسالة الخليفة عمر بن الخطاب لابي موسى الاشعري بعد توليه القضاء  صورة رائعة لقيمة الحياد في ذات القاضي وسلوكه لتحقيق القناعة المطلوبة للخصوم بعدالته  قبل الفصل في القضية وهو يوصيه (...آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَعَدْلِك وَمَجْلِسِك ؛ حتى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك , وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك .. ) ان النظرة الاسلامية الراشدة للقضاء والقضاة كان محورها وخلاصتها تحقيق العدالة وكلما كان المنتج صحيحا وسليما وعادلا كانت الانتاجية صحيحة وسليمة وعادلة وتعبر عن صورة الحقيقة ، فالعدالة كمفهوم تعني عدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر وأهداف العدالة الانصاف والمساواة والتوازن وعدم التعدي وحماية المصالح الفردية والعامة وهي مفهوم أخلاقي يقوم على الحق والأخلاق، والعقلانية، والقانون، والقانون الطبيعي والإنصاف.  وليس الحكم وحده عنوانا للحقيقة ، فثمة اجراءات قانونية تقتضي السير بها للوصول الى الحكم والحقيقة  وهذه الاجراءات اجراءات شكلية حددها القانون واوجب على القاضي اتباعها لحسم النزاع المعروض امامه  فالعدالة الإجرائية هي اتخاذ وتطبيق القرارات وفق إجراءات عادلة وهي عدالة سابقة لعدالة الحقيقة والحكم الصادر فيها و يشير المفهوم إلى كيفية استيعاب وتقييم الأفراد لعدل النظام أو الإجراءات القضائية والعدلية بصورة عامة، وكيفية معاملتهم خلال عملية تحقيق العدالة بغض النظر عن النتائج التي سيحترمونها احترامًا لعدالة العملية ذاتها. و يعتمد سلوك الأفراد على ما تسمح به القواعد فبدون قواعد وقوانين، لن يتسنى للفرد تحقيق أي شيء، وإذا قام الفرد بارتكاب أي فعل دون الحصول على إذن من القانون، يُعتبر فعله مخالفة وغير قانوني. وتفترض العدالة الإجرائية أن الأفراد يطالبون ببعض الحقوق والامتيازات، ولكن هناك مبادئ تحدد عملية الحصول على هذه المطالبات. 
ويعتقد الكثيرون أن العدالة الإجرائية ليست كافية، وأن الوصول إلى نتائج عادلة أكثر أهمية من تنفيذ العمليات العادلة. في حين يرى آخرون عدالة عمليات تحقيق وإجراء العدالة والتي تترجم إلى نتائج عادلة وموضوع الاجراءات التي تقتضيها طبيعة الدعوى منظمة بقوانين اجرائية  فقانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل يعتبر اساس الاجراءات القضائية والمرجع لجميعها  وتطبق مواده القانونية حتى في الامور الجزائية في حالة عدم وجود ما يعالجها في قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل والمختص بالإجراءات القضائية الجزائية  ومن يقوم بتطبيق هذه الاجراءات بمناسبة نظر النزاع هو القاضي ويكون ملزما باتخاذها وهي قوانين تمنح اطراف النزاع كلا بحسب مركزه القانوني الحق بممارسة الآليات القانونية المنظمة لسلوك الطرق التي تؤدي به للحصول على الحق المطالب به او تلك التي ترد الادعاء وتتمسك بإبقاء الحال على ما هو عليه وبين تطبيق هذه الاجراءات العادلة تكون العدالة القضائية المتجسدة في شخصية القاضي ومدى مقدرته على اتخاذ المواقف والسلوك عند تطبيق الاجراءات القانونية الضامنة للتقاضي بين اطراف النزاع بحيث يعزز من قناعة اطراف النزاع بعدالة الاجراءات المتخذة فالتعامل  بعين المساواة لأطراف الدعوى حتى في النظرة اليهم والتي يجب ان تكون متساوية وبذات الملامح والاصغاء فاطراف النزاع بالنسبة للقاضي متجسدون بصفاتهم ومراكزهم القانونية دون اي تميز وتمايز، 
فالكل سواسية امام القضاء ، ولم يترك القانون الاجرائي الامر على علاته في علاقة القاضي بالدعوى المنظورة فقد منح القاضي الحق في تقديم طلب بعدم نظر الدعوى استشعارا للحرج كما تضمن حالات لا يجوز للقاضي نظر الدعوى فيها ومن جانب آخر اعطى  الحق للخصوم برد القاضي وكل هذه الاجراءات القانونية الشكلية هي الرحم الحقيقي لولادة الحكم القضائي العادل وترسيخ القناعة به .