تربة لبنان المؤهلة لـ{الاستباحة الدبلوماسيَّة}

آراء 2020/08/19
...

رضوان عقيل *

كشفت زحمة زيارة الموفدين والمسؤولين الغربيين وغيرهم الى بيروت بعد تفجير مرفأ العاصمة في الرابع من آب الحالي عن هشاشة التربة السياسية اللبنانية، إذ أثبت أهلها وأحزابها وأقطابها الطائفية أنَّ لا قدرة لديهم على إدارة أمورهم الداخلية وتسيير الحياة اليومية للمواطنين، وكم كان من الصعوبة مراقبة صدور هتافات ونداءات من لبنانيين موجوعين فقدوا أحبتهم ومنازلهم في مربعات الدمار والدماء في محيط المرفأ في قلب بيروت عندما خرج هؤلاء وهم يعبرون عن جام غضبهم ويهتفون :"عاشت فرنسا"عند جولة الرئيس مانويل ماكرون في قلب محلتي الأشرفية والجميزة في العاصمة المنكوبة، ومارس هؤلاء الطقوس نفسها عند زيارة نائب وزير الخارجية الاميركي ديفيد هيل الى المكان نفسه عندما استمع الى المجموعات الغاضبة وإطلاقها شعارات ضد السلطة ومنها: "لا نثق بهذه السلطة ولا تقدموا لها الأموال والمساعدات" في إعمار بيروت وبلسمة جراح الأسر الثكلى. وللأمانة لا يمثل هؤلاء الشريحة الكبرى من اللبنانيين رغم توزع الكثيرين على أهواء خليجية وصولًا الى إيران وتركيا، هذه هي طبيعة لبنان القديمة – الجديدة وهي ليست وليدة اليوم لا بل تعود الى يوم إنشاء لبنان الكبير في العام 1920 الذي رسم فيه الفرنسيون خريطته واقتسام المنطقة مع الانكليز وبسط نفوذهما، وبقي اللبنانيون على هذا المنوال الى حين حلول موعد الاستقلال في العام 1943 حيث لم يخل منذ ذلك الحين اي استحقاق في انتخابات رئاسة الجمهورية او تأليف الحكومات والانتخابات النيابية من تدخل أجنبي وكأنه من قدر بلد الأرز الا يعيش شعبه ويتنفس أهله من دون مده بأوكسجين سياسي من الخارج، ومن أربعينيات القرن الفائت الى اليوم لم يتغيب الفرنسيون عن لبنان إضافة الى دول أخرى، ولا سيما الولايات المتحدة ودرج اللبنانيون من أكثر الزعماء والمسؤولين على رحلات الحج الى السفارات في بيروت في مشهد لا يتم العثور عليه في أي من البلدان العربية والمنطقة، إذ توجد في الاخيرة قبضة واحدة في يد الحكومات وتمسك بالمسار العام في البلاد وأقله في رسم العلاقات مع الخارج. 
بعد ثورة 1958 وحلول الرئيس فؤاد شهاب في سدة رئاسة الجمهورية- من أنجح رؤساء لبنان وأنزههم - بعد ولاية الرئيس كميل شمعون حيث سارت العلاقة بسلاسة بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر، ولا يزال اللبنانيون يتذكرون الى اليوم السفير المصري عبد الحميد غالب الذي خدم في بيروت ايام ولاية شهاب ولم يكن سفيراً عادياً بل كانت له الكلمة في قرارات كبرى تتخذ في البلد، ولم يكن مناوئو عبد الناصر آنذاك من المتفرجين بل عمدوا الى تطوير علاقاتهم مع السعودية وذهب آخرون الى بلدان غربية في مقدمتها فرنسا واميركا او التلاقي مع "حلف بغداد " الشهير. ويبقى الهدف من هذا الكلام هو الاشارة الى أنَّ تدخل السفراء والخارج في انتخاب الرؤساء وتأليف الحكومات على غرار تلك الحال التي شهدها البلد في عز أيام الوجود السوري من منتصف السبعينيات الى العام 2005، إذ كانت لدمشق الكلمة الفصل في تسمية رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان وصولاً الى تزكية عشرات الأسماء في مواقع عسكرية وسائر إدارات الدولة طوال هذه الأعوام. ولم تكن بعيدة بالطبع عن اتفاق الطائف الذي رسم دستور لبنان الجديد.
 بعد كلام الموفدين الأميركيين والفرنسيين الذين حلوا أخيراً الى لبنان يتم تلمس "الاستباحة الدبلوماسية" لهذا البلد بفعل أخطاء طبقته السياسية سواء كانت في 8 أو 14 آذار حيث توجه الاملاءات لسائر الفرقاء في البلد وليس أقله ما ردده الرئيس ماكرون للزعماء اللبنانيين بأنه سيعود الى لبنان في مطلع أيلول المقبل وتكون الحكومة المنتظرة قد تألفت، إذ من واجب اللبنانيين القيام بمثل هذه المهمة الدستورية من دون تلقي أي أوامر، ومن المفارقات وعلى مدار الأشهر الاخيرة انَّ أكثر من مسؤول في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأكثر من سفير غربي لا ينفكون عن المناداة والمطالبة بضرورة إجراء جملة من الاصلاحات لدرجة وصل الطلب الى تعيين هيئات ناظمة في قطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران!.
يتحمل المسؤولون في لبنان وعلى مدار الحكومات المتعاقبة من العام 1992 الى اليوم مسؤولية هذا التقصير الفاضح في إدارة المؤسسات وهدر المليارات من الدولارات التي لم تنفق في أماكنها الصحيحة جراء نيترات الفساد المخزنة في أكثر من مؤسسة وعقل سياسي، وأوصل هؤلاء اللبنانيين لطلب المحروقات وتسول القمح والحصول على المساعدات الغذائية لسد رمق جوع عشرات الآلاف من الأسر من مختلف الطوائف جراء حلقات هذا المسلسل الطويل من عمليات الفساد والسرقات التي تتم في الكثير من الأحيان باسم هذه الطائفة او تلك والمواطن اللبناني العادي بريء منها.
وكم كشف تفجير مرفأ بيروت عورات هذه المؤسسات والوزارات الصورية التي تقوم أساساتها على أعمدة من كرتون، لا توجد في لبنان هيئة لإدارة الكوارث على سبيل المثال حيث "ينام" قانونها في أدراج مجلس النواب جراء الخلاف على من يترأسها، رئيس الجمهورية الماروني أم رئيس الحكومة السني!.
 ليس غريباً على لبنان الغرق في هذه المستنقعات وهذا ما حصل مرات ومرات ابان الحضور السوري في لبنان حيث كانت له الكلمة الفصل في مختلف الاستحقاقات وأخذت دمشق تتدخل في الصغيرة والكبيرة في الربوع اللبنانية وأصبحت هي الحكم والفيصل في الكثير من المحطات. وتعمل أميركا على فعل الدور نفسه اليوم لكن مع فرض عقوبات اقتصادية على المقاومة والتضييق عليها، ولا ينبغي نسيان الصفحات السورية المضيئة في دعم مقاومة لبنان ضد الاحتلال الاسرائيلي وتتويج هذا الانتصار في تحرير جنوب لبنان في أيار 2020.
 وفي المناسبة لا تزال الطبقة السياسية الحالية تتذكر أدوار السوريين عبد الحليم خدام واللواء غازي كنعان وخلفه رستم غزالي وسواهم كيف كانوا يتدخلون في تأليف الحكومات وتركيب اللوائح الانتخابية، ومن المفارقات أنَّ " التجارة السياسية" مادة رائجة عند الكثير من العاملين في هذا الحقل في لبنان ومن دون تعميم حيث لا يعمل هؤلاء إلا من أجل مصالحهم ومن دون وضع أي اعتبار للقناعات والمبادئ السياسية والاخلاقية التي تحكم هذا الفن، بالامس حضر نائب وزير الخارجية الاميركي هيل الى بيروت جال وزار أكثر من مسؤول وشخصية وجلس الى موائد كانت مقاعد طاولاتها تستقبل المسؤولين السوريين حيث تناول هيل الوجبة نفسها من الأطباق اللبنانية اللذيذة ومن صحن الحمص نفسه الذي أكل منه مسؤولون سوريون. 
نعم وكأنه قدر الشعب اللبناني ألا يعيش إلا تحت ظلال "مندوب سامي" وإنْ تغيرت هويته من عربيَّة الى غربية هذا الواقع المرير ينبغي أنْ يكون في رأس اهتمامات المنتفضين الذين يدعون ويحلمون بإحداث تغيير لا يزال تحقيقه مجرد حلم بعيد المنال ما دام كثيرون لم يتعلموا من كل الدروس وهم ما زالوا الى اليوم يهتفون: "بالدم والروح نفديك يا زعيم"!
* صحافي وكاتب سياسي لبناني