باسم عبد الحميد حمودي
تشكل حديقة الدار الوارفة عالما من الألفة والحميمية وتبادل التجارب الفكرية إذا اتسعت لأصدقاء وخلّان يتباينون في التوجهات الفنية والفكرية ويتوافقون في إدارة الحديث بينهم بما لا يخل بأصول التوادد والاحترام والرغبة في التعايش الاجتماعي على اختلاف المشارب الإبداعية.
كانت حديقة دار الوالد رحمه الله في مدينة المأمون واسعة الأرجاء كثيرة الأشجار المتنوعة من تين وزيتون ولالنكي ومشمش، لكن هذا الجزء، وهو الأكبر يقع في القسم الخلفي من الدار وترتاده فتيات الأسرة اللواتي تحولن فيما بعد الى زوجات وجدات، فضلا عن الوالدين رحمهما الله .
كانت لقاءات الوالد المحدودة بجيرانه أمثال الدكتور إبراهيم الوائلي والفنان توفيق لازم والسيد عزالدين عبد الوهاب والاستاذ فاهم غزالة تتم في حديقة الدار الصغيرة الأمامية.
وكان القسم الأمامي من الدار قد حوى حديقة صغيرة يرتادها أصدقاؤنا أنا وشقيقي (هاشم) رحمه الله. إذ لم يزرها أصقاء الوالد.
كان (هاشم) كثير التنوع في (صنف) الاصدقاء، لايثبت على لون واحد فقد كان زميلا لفيصل لعيبي وعبد الرحمن الربيعي وهاشم سمرجي عندما كان طالبا في معهد الفنون الجميلة، وكان صديقا لعدد غير محدود من جيرانه في مدينة المأمون مثل المهندس عصام عزالدين وزميل الدراسة أديب عبد الرحمن والحاج قيس نعمة وسواهم.
وعندما أعتقل هاشم عدة أشهر في ثكنة الخيالة تمهيدا لمحاكمته بعد مظاهرات شباب المأمون على حكم الزعيم بقيت أراجعه كل أسبوع متفقدا حاجياته حتى أطلقوا سراحه بعد محاكمة أمام المجلس العرفي العسكري الأول.
في فترة الاعتقال التي استمرت تسعة أشهر مريرة عام 1962 كنت خلالها مدرسا في (الصويرة) أسرق الوقت لأصل بغداد الى الدار ثم الى (هاشم) تعرف ذلك المعلم الشاب على عدد كبير ممن كانوا معه ممن كانوا يتشكلون سياسيا... هكذا تنوع جلّاس حديقة دار الوالد المخصصة لنا بفضل تنوع علاقات هاشم.. الفنان والمعلم
والحقوقي معا!
بالنسبة لي كانت مجموعة من أصدقائي وأنا بعد طالب كلية خارج المنطقة التي أعيش فيها تتركز في مجموعة من أدباء شباب يرتادون المقاهي المعروفة في الخمسينيات وفي مقدمتهم أحمد فياض المفرجي وخضير عبد الأمير وغازي العبادي وسامي مهدي وموفق خضر وسامي حنا وأسعد محمد جعفر الخفاجي، هؤلاء هم الأقرب والأحب والأكثر انسجاما معي، لكن حديقة دار الوالد في مدينة المأمون تجمعني مع أصدقاء آخرين في مقدمتهم جيراني طلبة كلية الطب: لبيب عبد الرحمن السامرائي وعلي الجاف وزميلهما الرسام التشكيلي والنحات علاء حسين بشير وعصام الراوي. كنا ندرس معاً على اختلاف الاختصاصات وكنت أناكفهم وهم يتحدثون في شؤون السياسة والأدب لكني لا أستطيع الحديث بشيء وهم يتحدثون عن السيرجري (الجراحة) والاناتومي (التشريح) والفارما كولوجي (علم العقاقير).... فذلك شغلهم الأساس.
كانت حديقة الدار الأمامية قد استقبلت النحات الصديق طارق ابراهيم والكاتب المسرحي نور الدين فارس والشاعر حميد فرج الله والشاعر خالد يوسف وسواهم من الاصدقاء، فضلا عن طلبة الطبية الشباب لكن فصلا آخر من لقاءات حديقة الدار تم بعد هذا في حديقة داري الاولى في منطقة (الدورة) بمساعدة الاصدقاء الشعراء الذين قاموا بمساعدتي في نقل الأثاث الخفيف والثمين من داري المستأجرة في منطقة البياع الى الدورة وفي مقدمتهم: خالد يوسف اسماعيل وعبد الإله الصائغ ومالك الركابي.
كان ذلك عام 1976، في حديقة الدار الحديثة كان الصراع واضحا بين تقليدية النص الثقافي والثورة عليه والهوس بالتجديد كما سنرى في مقالة تالية.