مقداد عبدالرضا
أغلق المذياع، انقطع صوت القمر، أدار مفتاح التشغيل، توقف هدير المحرك، ساد صمت، أطفأ المصابيح، ساد ظلام، وضع جبهته فوق مقود السيارة، أحس برعشة تسري في بدنه، أغمض عينيه، مرَّتْ آلاف الأوراق النقدية من أمامه، انتفض، جال في المكان، صمت وظلام، مد يده لامس ضلفة الباب، سحبها بصعوبة، انفتحت، اللعنة، هذا الباب يصدر صريراً يزعجه، في كل مرَّة يصمم على أنْ يضع فيه الزيت لتسليكه وينسى، لكنه في النهاية استعذب هذا الصوت حتى أنه عندما ذهب لشراء حاجات تخص السيارة تذكر الصرير وتغافل عن شراء الزيت، تحامل على نفسه، وضع قدمه اليسرى في الخارج، أراد أنْ ينهض، ارتد الى مكانه، تمتم ببضع كلمات، أسند كفيه على باب السيارة وسحب جسده الى الخارج، ترنح، أسند جسده بسيارته، رفع رأسه بصعوبه وجال في المكان، المكان يلفه الظلام، ليس هناك شيء سوى ضوء يلتمع في إحدى شقق الطابق الرابع، امرأة ذراعاها الى أعلى تعبث بشعرها وظلها يتراقص فوق الجدار، أثاره المشهد، ابتسم في داخله، خطا خطوتين، ظل يبحث، نسي الطريق، تمتم، التمتمة تحولت صوتٍ ثم الى صراخ، ظل يصرخ بقوة، راح يدور كالمجنون، لم يكن أحد يسمعه، انكفأ على وجهه، ارتطم رأسه بالجدار، انفتح جرح في وجنته وساح الدم، حرك لسانه ولعق الدم الذي اختلط بشاربه، فجأة التمع ضوء حاد أغشى عينيه، تحامل على نفسه ونهض، مسح وجهه بذراعه وتذكر طفولته، كانت أمه كلما مرر ذراعه على وجهه صفعته ونبهته، داهمه حزن شديد، أراد أنْ يبكي لكنَّ الضوء التمع مرة أخرى، هو لا يعرف طريقه إلا من خلال هذا الضوء، عينا القطة، القطة التي اعتادت أنْ تقوده كالأعمى وتأخذه حتى باب المصعد، في إحدى المرات وحينما عاد متأخراً كعادته، لم يجدها بانتظاره، ظل يبحث عنها، راح يصرخ، بكى كثيراً لكنها لم تظهر، تذكر أخيراً أنه شهر شباط موسم تكاثر القطط، نام في سيارته وما إنْ لاح الفجر سمع عامل النظافة ينقر على زجاج السيارة من أجل إيقاظه، أراد أنْ يخرج لكنه سمع نقر حذاء امرأة على الاسمنت، لطالما شغف بهذا الصوت، التفت الى المصدر، هي المرأة التي ذراعاها الى أعلى تعبث بشعرها وظلها يتراقص فوق الجدار، أحس بخجل شديد، قاد سيارته الى العمل من دون أنْ يذهب الى الشقة التي يسكن فيها مع زوجته منذ سنوات، ها هي الآن تسير أمامه وهو يترنح، قادته الى المصعد انفتح الباب، دخل، ضغط على الرقم ثمانية حيث الطابق الذي يسكن فيه، ضغط على إشارة الغلق، لم ينغلق المصعد، ضغط مرة أخرى، دون جدوى، ظل الباب مفتوحاً، بانفعال شديد كبس باصبعه على الرقم ثمانية فأحدث شرخاً في دائرة الرقم، القطة تنظر إليه، أفزعته هذه النظرة، حاد عنها ووضع كفه فوق عينيه وضغط على الرقم المشروخ متحاشياً نظرة القطة، انغلق الباب، ظل لوحده، تهللت أساريره، صار يقفز داخل المصعد بشكل مضطرب ويضرب على جميع الأرقام، أغمض عينيه من النشوة، انهالت آلاف الأوراق النقدية، انفتح باب المصعد، ترنح ثم ما لبث أنْ استقام، سار خطوات واستدار، أراد أنْ يسقط لكنه استعان بالسياج وراح يمشي مترنحاً، من عادته حينما يصل الى باب شقته يخلع حذاءه وحتى الجواريب ويرفع بنطاله الى أعلى ويدخل كمن يخوض في وحل أو ماءٍ آسن، مدَّ يده
الى المقبض، حركه الى الأسفل ودفع الباب، انفتح على مشهد قيامة كل يوم، نائمة على الاريكة، ما أنْ لمحته وهو يدخل سحبت وسادتها والغطاء بشعرها المنكوش سارت باتجاه غرفة النوم، مرَّتْ بالقرب منه تجاهلته حتى من دون تحية
ولا سلام.
باصبعها ضغطت فوق زر الضوء فساد ظلام، هو كالبصير يعرف طريقه الى الاريكة، من عادته ايضا وحينما يعود متأخراً ينام بملابسه، استفاق صباحاً على ضجيج المطبخ، كانت أحياناً تتعتمد في الضجة حتى توقظه، بصعوبة تحامل على نفسه ونهض، توجه الى الحمام، وقبل أنْ يدخل سألته، هل أجهز لك الإفطار؟ أجابها بهزة من رأسه انْ نعم، دخل الحمام، تخلى عن ملابسه تماماً، نظر الى جسده في المرآة، ابتسم، ظل يبتسم، صار يضحك، وضع رغوة صابون الحلاقة فوق ذقنه وحركها بالفرشاة، انتفخ وجهه بالبياض، سحب شفرة الحلاقة، تطلع في المرآة مرَّة أخرى، حرك الشفرة تجاه وجهه، توقف، بتلقائيَّة عجيبة يده انخفضت قليلاً مع الشفرة، الشفرة تلامس عنقه، سحبها بقوة، نث الدم، مرر أصابع كفه الأيسر على عنقه اختلطت بالدم ارتفعت أصابعه اختلط الدم بالرغوة، أثاره المشهد كثيراً، للمرة الأخيرة ابتسم وهي اللحظة الوحيدة التي عرف فيها أنه يبتسم، أراد أنْ يلعق أصابعه لكنْ خانته قواه، الأحمر والأبيض، المرآة ترتفع شيئاً فشيئاً ارتفعت كثيراً، المرآة تغادره، أحس بخيط الدم يسري فوق جسده، وقبل أنْ يغمض عينيه، شاهد ظل المرأة فوق الجدار يتراقص وهي بغنج تعبث بشعرها، كانت فيه رغبة أنْ يطلب منها إيصالها الى دائرة عملها لكنَّ النقر الذي أحدثه كعبُ حذائها على الاسمنت دفعه
الى الصمت.