ـ الزمن جنين ميت في رحم الكون..ان لم يكن داخل إطار الحرية..
ـ العملية الإبداعية مهما اختلفت أشكالها وتباينت أهدافها فهي عملية فنية خلاقة تسجل إنسانية الإبداع منطلقة من واقعه البيئي.. وتحقق انسانية المنتج (الشاعر) الانسان، منبثقة من خياله وفكره وهو يجاري الحياة من أجل أداء رسالته..
والشعر كغيره من الفنون لا يختلف عنها إلا بوسيلة التعبير (الكلمة المقروءة او المسموعة).. مع اعتماد النغمة المنبعثة من اللفظ والايقاع ودلالة الموسيقى فيه:
النظم = البحر
السجع = القافية
ـ والشاعر محمد مهدي الجواهري ابن النجف الأشرف بامتدادها التاريخي الذي يعود الى القرن الخامس الهجري.. حيث اقامة واستقرار الامام ابو جعفر الطوسي المتوفي سنة 460هـ ومعه طائفة من طلابه الهاربين من جور السلاجقة المذهبي في بغداد.. كونها مركز العلوم الدينية واللغوية بعلومها (نحو وصرف وبلاغة وادب..) وتحت ظلالها كانت ولادة الشاعر الجواهري تموز/1899م.. وفي اروقتها الدينية تعلم وكتب الشعر.. ونشر اول قصيدة له في جريدة الاستقلال البغدادية 1921م.. وسبق ذلك كتابة الكثير من القصائد..
ـ للجواهري.. إطلالته من بيت أعمدته العلم والادب والاستدلال والجدل والفلسفة والفقه.. كل هذه أضفت على شاعريته ظلالات الابداع والخلق الشعري التي في اثرها حصد الالقاب (نابغة الشعر العربي وشاعر العرب الأكبر ووارث الشعر وخالقه وانتهاء بمتنبي زمانه..) يتمرد على شرنقته المجتمعية وتقاليدها.. ولا يتجاوزها مكانيا بل ظل مقترنا بها..
ـ الجواهري.. تشكلت حياته بسنينها من قنوات رئيسة ثلاث: اولها: القناة الدينية والادبية والصحفية (داخل النجف).. ثانيهما: دخوله معترك السياسة والتعليم. (خارج النجف).. أما ثالثتهما: فتشكلت من هجرته واغترابه (خارج الوطن).
ـ الجواهري.. كثيرا ما سعى والده الشاعر والفقيه ليصنع منه رجلا ينتهج نهجه وجده.. لكن الشعرية المتفجرة داخله كانت تجذبه صوبها بقوة فاستجاب لها بكل كيانه الفكري والعاطفي وابدع في صناعة عوالمها مع نشره نصه الاول كشاهد إبداع مطلعه:
لعل الذي ولى من الدهر راجع فلا عيش إن لم تبق إلا المطامع
وتوالى النشر وفتحت الصحف والمجلات أبوابها له.. كصحيفة العراق والاستقلال والرافدين ومجلة لسان العرب للأب الكرملي.. لتميز نصوصه بفرادتها مبنى ومعنى وأسلوبا.. فكان ربّاً للشعر على حد تعبير الرصافي:
أقول لرب الشعر مهدي الجواهري الى كم تناغى بالقوافي السواحر
فضلا عن انه نقل نبض العصر وتمرد على واقعه متضامنا والطبقات المسحوقة التي تعاني المشاكل والعقد..
ـ الجواهر.. الذي شدته رهبة الشعر وقدسيته اقترانا بموهبة استثنائية وذهنية فاعلة وذات متفاعلة مع اللفظ والصورة والمجتمع..
ـ الجواهري.. المعجزة المكتنزة بالمعرفة الانسانية والذاكرة الحية الخالقة لاثرها الابداعي. والمستفزة للذات الجمعي الآخر.. حتى انه قال مرة (ما سمعت شيئا إلا حفظته..) فصارت حافظته مكتظة بآلاف من الابيات الشعرية المستلة من مراحل الشعر التاريخية وعصوره (الجاهلي والاسلامي والاموي والعباسي..).. فضلا عن تأثره بالفكر الماركسي الذي وظفه بمقولاته وشعاراته واهدافه في نتاجه الشعري.. كونه يدعو الى التحرر من التعسف الطبقي والاجتماعي والسياسي..
ـ الجواهري..النرجسي حد النخاع يخلق أسطورته في معلقته (آمنت بالحسين) 1947..
فداءٌ لمثواك من مضجعِ تنوّر بالأبلج الأروعِ
بأعبق من نفحات الجنان روحا ومن مسكها أضوع
بعد ان سبقها بقصيدة (عاشوراء) 1935.. استعرض فيها ووثق من خلالها العديد من الاحداث التاريخية
والمأساوية بحسب رؤاه..
هي النفس تأبى أن تذل وتقهرا ... ترى الموت من صبر على الضيم ايسرا
وتختار محمودا من الذكر خالدا على العيـــش مذمـــوم المغبة منـــــكرا
مشى ابن عليٍّ مشية الليث مخدرا تحــدته في الغاب الـــذئاب فأصــــحرا
وما كان كالمعطي قيادا محاولا على حين عضّ القيد أن يتحــــررا
فالنص عند المنتج (الشاعر) كائن حي متصاعد بنموه عبر ألفاظ موحية بعيدة عن الضبابية والغموض.. خالقة لصورها داخل جسد التجربة او اللحظة الشعورية التي تعيشها.. وهي في مجملها مرتبطة بوحدة عضوية نافذة الى جوهر الأشياء.. كون الشعر الدائم هو الذي ينفذ الى ما وراء دائرة الوعي..
ولكن أنوفا أبصــــــر الـــذل فاثنى لأذياله عن أن تُلاثَ مشـــمرا
تسامى سمو النجم يأبى لنفــــسه على رغبة الأدنين أن تتحدرا
وقد حلفت بيض الضبا أن تنوشه وسمر القنا الخطي أن تتكسرا
وغيّب عن بطحاء مكة أزهر أطل على الطف الحــــــــزين فأقمرا
فالنص اِلتفاتة الى الذات الانسانية في التعبير عن أزمتها والتصدي للقلق والتمزق المجتمعي اللذين يدفعانه للطواف في احضان الحدث (الطف).. مع اتكاء على ما يربط النفس ويطالعها في عالم الحس.. فضلا عن اعتماده على النزعة التعليلية الواعية لكي يشد العبارة الشعرية بعمق الرؤيا التي تخفف من وطأة الوصفية والسردية.. فضلا عن أن صوره امتازت بتطاولها واتساع مدياتها من خلال توظيفه للجزئيات والنعوت والاضافات واعتماد الجملة الفعلية الدالة على
الحركية..
وطاف بأرجاء الجزيرة طائفٌ من الحزن يوحي خيفة وتطـــــيّرا
أبت سورة الأعراب إلا وقيعة بها انتكص الإسلام رجعاً الى الورا
ونكّسَ يوم الطف تاريــخ أمة مشى قبلها ذا صولة متبــــــــــخترا
فالمنتج (الشاعر) يحاول الاتفاق مع القيم الحياتية بشكل نفسي (سايكولوجي) مع امتزاج رؤاه الشعرية مع رؤاه الاجتماعية.. وبذلك قدم الشاعر نصا هو الذات فيه والموضوع وقوى النفس مجتمعة.. خالقة مضامينه الموغلة في العمق.. إذ يحاول بانفعاله الداخلي ان ينقل اسراره في جو من الايحاء.. فضلا عن أنه يتناول القيم في الوجود (سواء اكانت خارجية تتمثل بالطبيعة او داخلية تنحصر في النفس (الضمير) وهذا يعني إعادة سلطة العقل فيها وفعلية الواقع.. فكان الشاعر ناقدا لواقعه.. مسجلا اللحظات التي تستملكه من اللذة ليخلق أسطورته بيقينه الشعوري.. العاطفي المتحد مع خياله.. بحضور واع في مجمل لغته وتعبيراته.. كونه يرى ان الشعر الحقيقي هو الذي يولد وسط المعاناة فيمتلك الصدق ويعبر عن اصالة المنتج (الشاعر) الذي يعزف بعزف روحي في حالة من السمو والصفاء والتآلف لانه يعبر عن تجربة حدثية معتمدة فلسفة الوجود ومنطق الرؤيا الذي يخترق جدران الصمت...